ملخص محور الفن: الجمال والحقيقة – فلسفة – بكالوريا آداب
مدخل إشكالي للمسألة:
“إن لحظة الإبداع هي اللحظة التي يلتقي فيها الفنان (الآثار الفنية) والعالم (نظريات ونماذج) والفيلسوف (الأفكار) ” هنري بوانكاريه.
الإنسان كائن القيم إنه كائن مركب لا يختزل في ملكة العقل بما هو إستعداد فطري، بل هو عقل ومخيلة وإحساس وجسد فمثلما يسعى إلى تلبية الحاجات البيولوجية أي متطلبات الجسد فإنه في حاجة لمتطلبات أخرى لإشباع البعد الروحي فيه لذلك كانت القيم متطلبات الإنسان الروحية، فمثلما يسعى إلى تحصيل الحقيقة معرفة، وتحصيل العدالة والفضيلة والخير أخلاقا، فإنه يطلب قيمة الجمال لتجاوز القبح وتحصيل المعنى، فملكة الإحساس والذوق تطلب انتشاء النشوة وهو شعور وجداني، وتجد هذه الحالة تحققا لها في الفن. فماذا نقصد بالفن؟ وما غايته؟ هل ننشد من وراء الفن مطلب الجمال أم مطلب الحقيقة؟ وإن سلمنا أن الفن يجسد الحقيقة فما طبيعة هذه الحقيقة؟ وأية علاقة بين الفن والواقع؟
سنحاول أن نرصد أولا دلالة الفن ودلالة الجمال ودلالة الحقيقة في مستوى أول وفي مستوى ثاني سنبحث في طبيعة العلاقة بين الجمال والحقيقة. هل هي علاقة تضايف أم هي علاقة تعارض و تنافر؟
الفن:
“عملية إبداعية تنزع نحو غايات جمالية وتنفذ إلى أعماق الذات وتكشف حقيقة الأشياء” (المعجم الفلسفي لارانت).
الفن: Art في اللغة اللاتينية يعني المهارة والإتقان، وفي العربية الحرفة والصناعة، وفي الإغريقية الحذق في إنجاز ما هو عملي.
الفن فلسفيا: يفيد الفن معنى إنتاج القيم الجمالية التي تتسم بقيمة الجمال وتتجسم في عمل يحدث فينا إحساسا باللذة والمتعة والنشوة. فكل نشاط إنساني يبدع الجمال ويحقق المتعة. tالفن هو كل إنسجام وتناغم غايته إحداث نشوة وجدانية ونفسية في المتلقي.
التجربة الفنية متضمنة لأربعة أبعاد:
بعد جمالي:
الفن جوهره إجلاء للجمال عبر أعمال تثير الإعجاب والشعور بالجمال.
بعد رمزي:
الرؤية الفنية بما هي تمثل منسجم متماسك ذات طابع توسطي أي وسيط رمزي وقوة إدراكية محققة لوحدة يتناسق فيها الشكل والمضمون .
بعد خيالي:
يقتضي العمل الفني صورا يبدعها الفنان مستخدما المخيلة لأن الفن استخدام حر للخيال ويتعلق إجمالا بموضوعات إفتراضية أي أوضاع افتراضية.
بعد روحي:
يعبر الفن دائما عن روح الفنان وعن تجربة ذاتية روحية.
الجمال:
قيمة تعبر عن إحساس وشعور بالانتشاء، المتعة والإعجاب، فهي لذة نفسية وجدانية وروحية. الجمال ليس صفة في شيء وإنما هو قيمة وهو الأثر الذي تركه الأثر الفني في الذات المتقبلة. ويعني الجمال الحساسية على مستوى ما يثير الوجدان بدلالاتها التأثيرية الملازمة للوجدان.
يقتضي الفن إنشاء علاقة تتعالى على المنفعة وتتخطى في إنجازها كل القواعد الإلزامية والضوابط العقلية فالجمال ليس له أساس عقلي، إنه نسبي. إذ يتسم بالاختلاف والنسبية وتخترقه الفوضى.
الحقيقة:
الحقيقة هي الماهية والجوهر في ذاته ولذاته (الشيء الثابت). ونعني بالحقيقة، التوافق والتطابق بين الحكم والواقع، فالحقيقة في الأصل اليوناني تعني استرجاع الذاكرة والخروج من النسيان. (تطلب العودة إلى عالم المثل).
الحقيقة قيمة تتنزل ضمن مجال التصديق والاقناع والبرهنة والاستدلال واليقين نقيض الشك، يتأسس على العقل ويشترط الوجاهة والتماسك المنطقي. إنها تتسم بالصرامة والدقة والإجماع والإنسجام. فتتسم بالثبات والوحدة والإطلاقية والكلية.
الجمال: محل اختلاف:
الجمال قيمة نسبية تتسم بالخصوصية والكثرة. وهو شعور حسي جمالي يفتقد للمعقولية أي للعقل. الجمال هو الميل، الإعجاب، اللذة، النشوة العاطفة، إنه شعور مرتبط بالمحسوس ومقترن بالنفسي. فالجمال هو قيمة منزهة عن كل غرض نفعي.
الجمال بما هو انفعال وإلهام، مقصد كل إنسان وفي متناول كل العامة مثلما هو في متناول الفلاسفة، فكل البشر لهم القدرة على تحصيل الجمال. فقيمة الجمال تتعارض مع القبح المبتذل – المحرف.
الحقيقة: محل إجماع:
الحقيقة كقيمة هي مطلب – غاية، تتسم بالاطلاقية والكلية وهي يقين يشترط العقل كمرجع أساسي ووحيد، حينها تكون الحقيقة محل إجماع. الحقيقة بما هي يقين وبداهة وصواب ≠ الخطأ، الوهم، الغلط، الباطل..
الحقيقة بما هي تتطابق بين العقل وذاته في مستوى ما هو صوري، فمطابقة العقل مع الواقع في مستوى ما هو تجريبي هي مطلوب الخاصة من الفلاسفة والعلماء –والعقلاء أي من أهل العقول وأصحاب البرهان.
في هذا التحديد عن طريق الجمع بين الجمال والحقيقة ضرب من اللامعقول، والخلف المنطقي طالما أن الجمال مسألة ذوقية ممتعة تنأى عن كل القواعد والضوابط، إنها علاقة تبدو متعارضة لأن الحقيقة هي نتاج العقل التي نصل إليها عبر منهج يستند إلى جملة من المبادئ والشروط المنطقية العقلية الصارمة وهو ما يجعل من القيمتين، قيمتين متنافرتين من جهة المجال ومعايير الحكم .فالجمال) مجاله الإمتاع والحقيقة مجالها الاقناع.
فما هو الحل؟ ووفق أية رؤية يمكن الملائمة بين الحقيقة الموضوعية الكونية والجمال النسبي الخصوصي؟
الإختلاف في الفن يتمثل في علاقته بالجمال والحقيقة ففي حين أن الجمال قيمة نسبية فإن الحقيقة مطلب كلي. ولمعالجة هذا الإحراج لا بد من تحديد مفهوم الفن من جهة علاقته بالطبيعة والصناعة والعلم والفلسفة والأخلاق وبعد ذلك الانتقال إلى الإبداع الجمالي والفني بإبراز الذاتية فيه بل الانتقال إلى مجال أكثر غاربة وهو التشريع إلى جمالية القبح ثم نصل في الأخير إلى الحقيقة و المتمثلة في كشف المحتجب، الجمال الكامن في رحم الحقيقة. حينها يكون الرهان قد حصل الحقيقي هو الجميل والجميل هو الحقيقي إنهما تجربة الحب المجسمة لتآلف القيمتين.
هكذا نتبين الإحراج الحقيقي المتمثل في إمكان التعالق بين الجمال والحقيقة فالفن مطلوبه الجمال وأن الحقيقة مطلب دخيل عليه لأن الحقيقة مطلب الفلسفة والعلم .
سنحدد إستراتيجيا تجعلنا نتفهم طبيعة علاقة الفن بالحقيقة وربما يكون من الوجيه أن نحدد دلالة الفن أولا ثم استشكال دلالة الإبداع الفني لنصل إلى تحديد غاية الفن الحقيقية وهي كشف الخفي أي الحقيقة.
الجميل هو القبيح وقد جُمل:
الفن محاكاة للجمال الطبيعي: أفلاطون: الفن محاكاة للطبيعة:
إنشغال الفنان بالجمال والإبتعاد عن الحقيقة ومنزلة الفن ودلالة الجمال:
لما كان العمل الفني بما هو نشاط إنساني واع وغائي فإن مقاصده وغايته هي التي تحدد منزلة الفن والفنان في الوجود. لقد مثل الفن أو التجربة الفنية بما هي تجربة إنشغال بالمحسوس، بالطبيعة وجمالها لذلك كانت منزلة الفن والفنان منزلة دونية لدى أفلاطون لأن الإنشغال بالمحسوس يجعلنا نتجاهل التأمل أو ارتقاء الذات نحو عالم المعقول، عالم الماهيات، إنه عالم المثل، مسكن الحقيقة. فالفنان الذي انشغل بالطبيعة وجمالها لا يهتم بالحقيقة بل هي ليست موضع نظر للفن، هي موضع نظر للفلسفة لذلك سعى الفلاسفة إلى طرد الفنانين من المدينة أي من الدولة، عالم المحسوس، عالم الضلال والأوهام والزيف هو موطن انشغال الفنان الذي يعتقد في الجمال الطبيعي ويسعى إلى محاكاته أي أن النشاط الفني هو عملية نسخ أي تقليد لجمال الطبيعة. فالأثر الفني هو صورة لعالم المحسوس، عالم الزيف والضلال والأوهام. فهو محاكاة للطبيعة أي صورة زائفة. الفن إذن هو صورة الصورة، فهو من الدرجة الثالثة. (1 – الحقيقة المطلقة: عالم المثل -2- المحسوس -3- الفن).
المثل = الحقيقة تتعارض مع الطبيعة التي هي صورة زائفة فالفن محاكاة للصورة الزائفة، الفن صورة للصورة أي هو أكثر زيفا من زيف المحسوس. مهمة الفنان هي رصد جمال الطبيعة ومحاكاته في أثر فني. الأثر الفني هو انشغال بالجمال الطبيعي فيصبح مطلب الفن هو الجمال الطبيعي.
إن هذا الانشغال بالفن كمحاكاة لجمال الطبيعة وسحرها يجعل من الممارسة الفنية ممارسة لا ترتقي لمجال الإبداع فمهما كانت المحاكاة وفية وصادقة فإنها لا تكون تجربة خلق بحق، كما أن ما رصده الفنان كجمال طبيعي يبقى مؤقتا وزائلا “ما حاجتنا إلى تقليد والحال أن الأصل موجود؟” أي لا يدوم ونحن نريد جمالا أبديا كونيا مطلقا يتجاوز حدود الزمن والتاريخ لذلك علينا أن ننشئ جمالا حقيقيا يتجاوز هذا الجمال الزائف فتكون التجربة الفنية ليست تجربة محاكاة بل تجربة خلق وإبداع لتجاوز الجمال الطبيعي. فالفن إبداع أو لا يكون، إنه موهبة، فالعين الساحرة للفنان هي التي تجعل منه “رب وسيد خلقه” فالفنان هو خالق لأثر فني، لجمال يتجاوز الجمال الطبيعي.
الفن إبداع لجمال فني: تصور كانط ويزمان و بول كلي:
أطروحة ويزمان وأطروحة بول كلي مع ليونارد دي فينشيي : فرادة الابداع الفني:
يُخلق الأثر الفني من العدم أكثر مما يُخلق من الطبيعة أي أنه ليس دائما تجسيما لتجربة محاكاة بل يسجد تجربة ابداع تجربة خلق فمن رحم المخيلة ومن عمق الإلهام والعبقرية والموهبة ينكشف الأثر فيثير في المتلقي شعورا بالجميل والجليل هو إعجاب مثقل بإحساس الرهبة والخوف بالعضمة والحيرة.
فالتجربة الفنية هي خلق لجمال فني يتجاوز الجمال الطبيعي. فالجمال ليس موطن وليس صفة للأشياء بل هو تمثلا نتاج لموهبة الفنان: فالفن هو مجال العبقرية. يقول كانط بالقدرة الفائقة على إيجاد تمثلات.
فالتمثّل بما هو أساس الفن هو الذي يجعل من الأثر الفني تمثلا جميلا أي أن الأثر ليس إنعكاسا لنموذج طبيعي معطى وإنما هو نتيجة لنشاط أصيل أو أسلوب نظر على، تحديدا الجمال ليس خارج الذات بل هو إنشاء وابتكار وخلق وصناعة لذلك كان خيال الفنان تعبيرا عن قدرة إبداعية خلاقة إنه التعبير الجميل عن أشياء الواقع يقول كانط:” ليس الفن تمثيلا للأشياء الجميلة بل هو التمثل الجميل لشيء ما”. فالجمال الفني يتجاوز الجمال الطبيعي لذلك كان التأكيد على أهمية الإبداع في تجربة الخلق الفنية منطلقا لتجاوز التصوّر الذي رأى في الفن محاكاة للجمال الطبيعي.
إن تحديد حقيقة الابداع الفني بما هو خلق لجمال يجعلنا نعلن أن الجمال الحقيقي هو الجمال الفني وليس الجمال الطبيعي لأن الجمال الفني مثقل بالابداع والخلق كما أنه يعبر عن سمو الذات المبدعة “عين الفنان الساحرة ” وموهبته تترجم عبقرية الذات الملهمة بصناعة عالم جميل يتجاوز جمال العالم الطبيعي. يقول كانط:” يتجلى تفوق الفن الجميل في كونه يعطي وصفا جميلا لأشياء، هي في الطبيعة قبيحة”. فجمالية القبح هي تجاوز لما هو طبيعي أي أن الفنان يخلق عالما مغايرا للعالم. فعالم الفن يعبر عن تجربة هي تجربة الخلق وهي تجربة سفر في عالم الخيال.
إن هذه التجربة الفنية الإبداعية التي منطلقها ذاتي تتوجه نحو المتذوق أو المتقبل كأثر فني فيثير فيه إحساسا بالإمتلاء والنشوة (يخرج من ذاتك ويصبح موضوعيا) إنه الشعور الذي يكون منطلقا للحكم الذوقي. فماذا نقصد بالذوق أو التذوق؟ التذوق هو حب الشيء أي استحسانه. خاصية كل شيء يولد المتعة والنشوة والإحساس بالجمال إنه أساس إحساس بلذة دائمة منزهة عن كل منفعة. فالتذوق ينطلق عبر عملية الإدراك سواء كانت بصرية أو سمعية. فالتذوق إنتشاء وجداني.
إن الإستيتيقا التي هي علم الجمال – فلسفة الجمال التي تهتم بمنطلقات وأسس وقوانين التي تحكم الفن، هي المبحث الذي ينشغل بالقواعد والمعايير والقوانين التي بمقتضاها يتم الحكم على الأثر الفني إن كان جميلا أو غير جميل. وتأكدنا أن الجميل هو ما يثير فينا الإحساس والانتشاء واللذة والمتعة.
فإذا كان الجميل هو ما يثير فينا الإحساس بالمتعة فإن هذا الحكم الجمالي حكم الذوق أو التذوق هو حكم ذاتي. فالجميل نسبي.
إن هذه الذاتية في الفن تجعلنا نتساءل عن حقيقة الأثر الفني: هل يطلب الأثر الفني قيمة الجمال فحسب أم يتجاوز نحو غاية أخرى تكمن وراء المدرك حسيا ؟
يبدو أنه وراء المرئي أي الشكل هناك مضمون روحي: إنه الحقيقة في الفن، فأي حقيقة نجدها في الفن؟
الفن إتحاد بالحقيقة:
تبدو الحياة مثقلة بالأوجاع والآلام، نحاصر بالقيم، بعنف الدولة، بسلطة العائلة، بكل ما ينتصب أمام إرادتنا وأحلامنا وانتظاراتنا فنبحث دائما عن مجال نجد فيه ذواتنا أي نشعر بحريتنا وبراحة وطمأنينة فكان عالم الفن عالم الخيال هو العالم الذي نهرب إليه كلما اشتد الضيق بنا فالفن أو الآثار الفنية تحمل سحرا جماليا من جهة وحقيقة مغايرة لحقيقة الواقع فكيف نكتشف حقيقة الفن؟ أليس العمل الفني هو قول عن الواقع أي تعبير عن الواقع الذاتي أو الموضوعي؟
يعبر الفن عن حقيقة بل عن حقائق، لأن الأثر الفني هو مجال تأويل، لقد قالها نيتشه: “لنا الفن كي لا تميتنا الحقيقة” إنه يذكرنا بالمنسي ويجعل الحاضر منسيا أي أن الفن يعبر عن الحقيقة الحقيقية وليست عن الحقيقة الزائفة. فكيف ستحدد الحقيقة في الفن؟ وهل حقيقة الفن حقيقة ذاتية أم حقيقة موضوعية؟
الجمال قيمة: لما كان الجمال جمالا طبيعيا والفن محاكاة لهذا الجمال كان بعيدا كل البعد عن الحقيقة ولما أصبح الجمال جمالا فنيا أي الفن ابداع، اتحد الفن بالحقيقة.
الفن إعلاء وتصعيد: الأثر الفني ترجمة للمسكوت عنه أي الخفي: فرويد:
لقد بين فرويد أن حقيقة الإنسان تكمن في عمق حياته النفسية أي ترتبط باللاشعور فما يعيشه “الأنا” من كبت وحرمان يجعله يبحث عن عالم يحقق فيه ما لم يُحقق فعليا كرغبات في الواقع. هكذا يقيم فرويد مقارنة بين الفنان والعصابي إذ يقول: “ينسحب الفنان كالعصابي من واقع لا يرضيه إلى دنيا الخيال ولكنه على خلاف العصابي يعرف كيف يخرج منه راجعا ليجد مقاما راسخا في الواقع”.
إذا كان العصابي يغادر الواقع لمن يعود إليه فإن الفنان عبر التجربة الفنية أي بالتصعيد والإعلاء، بإنشاء آثار فنية يعبر عن عمق حقيقة كامنة فيه. ولكنه يعيد الوصل بالواقع أي يتراوح بين عالمين، عالم الخيال وعالم الواقع.
إن الأثر الفني كإبداع هو انعكاس لحقيقة الذات توجد في عمق الحياة النفسية للفنان، فالفنان لا يعبر حسب فرويد عن محاكاة للجمال الطبيعي بل يعبر عن بعد ذاتي هو حقيقة الذات المبدعة. فالأثر الفني عبر تأويله يمكننا من اكتشاف حقيقة ذاتية لذلك كان البعد الرمزي للأثر الفني هو منطلق تأويل أي استخراج لما هو خفي داخل الأثر من الحقيقة الذاتية.
إن حقيقة الأثر الفني تبدو أعمق من أن تختزل في ما هو ذاتي فهناك حقيقة أخرى تتجاوز البعد الذاتي. إنها الحقيقة الموضوعية في الفن.
الفن تجسيد للحقيقة في بعدها الموضوعي: علاقة الشكل بالمضمون – هيغل:
عكس ما ذهب إليه “كانط” بين “هيغل” أن الفن لا يكتفي فقط بالتعبير الجميل أي بالشكل بل يهتم أيضا بالمضمون. فالفنون المختلفة تعبر عن ثقافات وحضارات الشعوب. يقول هيغل:” الفن كالدين والفلسفة شكل من أشكال التعبير عن الروح المطلق” أي أن الفن لا يكتسب جمالية من الشكل التعبيري فحسب بل من محتوياته الرمزية ومن تعبيره عن الحقيقة. فالفن لدى هيغل يمكن الإنسان من أرقى أشكال الوعي أي الوعي المطلق.
فمختلف الحضارات والشعوب عبرت عن نزوعها نحو الخلود، نحو الكلي بعظمة آثارها الفنية فالجمال الفني وهو الجمال الحقيقي لدى هيغل أسمى من الجمال الطبيعي لأنه مثقل بالعظمة والابداع فالأموات والحضارات الماضية جسدت خلودها وحضورها ووجودها اليوم بالآثار الفنية الجميلة. فالجميل هو الأثر المثقل ببعد روحي. إنه يحمل الحقيقة إنه الحقيقي لذلك نفهم جيدا علاقة الشكل بالمضمون في الفن. فلتجاوز الفناء والزوال وطلب الديمومة والخلود كان الفن هو آلية ذلك. الفن ليس مجرد متعة بل هو توقيض للمشاعر ووضعها في حضرة اهتمام الروح فالشعوب أودعت أسمى أفكارها في الفن لذلك كان الفن محل الكلي أي الكوني. إنه تعبير عن الماضي وعن الحاضر. فللفن علاقة بالواقع.
الفن التزام بفضح الواقع: ماركس:
لقد اعتبر ماركس أن الفن ليس سوى انعكاسا للواقع المادي الطبقي فهو ينتمي إلى البنية الفوقية (الفكر) التي هي انعكاس للبنية التحتية (الواقع المادي). فالفن بالنسبة لماركس هو إيديولوجيا وبالتحديد إيديولوجيا الطبقية المهيمنة التي تملك وسائل الإنتاج. ففي كل مرحلة هناك نوعية من الفن. فكلما تغير الواقع تغيرت الفنون أي أن الفن هو “تعبيرة” تجسد وظيفة ثورية، فالفن يسعى إلى كشف حقيقة الواقع أي فضح كل الممارسات اللإنسانية أي أن الفن التزام بقول الحقيقة بطريقة حسية جميلة إنه كشف وفضح للواقع وهو أداة إزالة للأقنعة لذلك كان الفن الملتزم (ضمنيا هناك فن غير ملتزم أي يكرس الانحطاط والقبح) عدو السياسي وعدو الدين بل الفنان عدو الواقع السائد، واقع الاستغلال والاغتراب والعنف فالفن الملتزم سلاح يمكن أن يغير الواقع.
حدود التصور الماركسي للفن:
عجز الماركسية على ابراز خلود العمل الفني واستمراريته: اذا كان الفن بحسب ماركس مشروط بواقع مادي فان معنى ذلك ان تغير هذا الواقع واستبداله بواقع جديد يؤدي الى اندثار الفن وتلاشيه. غير ان ما يلاحظ هو ان العمل الفني هو عمل خالد يخترق المكان والزمان وهو ما يعني ان سرد خلود العمل الفني ليس التعبير عن الواقع وانما هي المتعة التي يحققها الفن.
عدم مشروعية اختزال اصالة الفن في مصالح البروليتاريا او طبقة اخرى: صحيح ان الفن يسهل تلقيه حير يعبر عن الواقع المادي وتسمى هذه الخاصية بالواقعية غير انها لا تفسر أصالة الفن وشموليته فالفن وبما فيه من متعة ولذة هو ما يجعل منه فنا أصيلا “فكونية الفن او شموليته لا يمكن ان تبنى على عالم من طبقة خاصة ولا على تصورها للكون لان الفن يوجه منظوره نحو الانسانية”.
على هذا الاساس يعتبر ماركوز ان تصور ماركس للفن هو تصر ايديولوجي يضيق الفن ويقتله حين يختزله في التعبير عن الواقع المادي.
ان الفن اوسع واثرى من ان يختزل في التعبير عن مصالح البروليتاريا. والفن ابداع ذاتي يستمد خلوده وكونيته من قدرته على تحقيق المتعة للانسان بقطع النظر عن انتمائه الطبقي.
اذا كان ماركس يميز بين ضربين من الفن فان ماركوز يرى ان كل فن هو فن طالما ان فيه امتاع ولذة.
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني