يمسك دفتره الممزق بيديه المتعرقتين، ويمسك علبة السجائر بيده الأخرى…
العلبة الخامسة لهذا المساء، بعد مضي صباح مقزز من العمل المضني في المكتب الكئيب عاد إلى بيته ليستمتع بكأبته أكثر…يشعل واحدة من أخرى ناظرا للدفتر بعينين ناعستين شاردتين متورمتين ومزدانتين بهالات شديدة السواد …يفكر ويتحسر على سنوات ضياع ألهته عن دفتره أو بلأحرى روايته…
حلمه اللا مكتمل. سُلبت يداه النقش بالحبر …كما سلب قلبه الإحساس وأضحى نسخة عابرة وهو الذي كان يوما يلعن الرضوخ ويلعن النسخ، وهاهي اللعنة مستقرة فيه لا تغادره…كم تغير وكم استسلم… نام على كرسيه في ساعة متأخرة من الليل…نام متشبثا بدفتره بكلتا يديه.
نهض مرهقا وقد تأخر على غير عادته … لبس معطفه الأسود وخرج ليجد المطر يغزو مدينته…قاتلته. ظل يتمشى على وقع المطر رويدا رويدا يريد أن يغتسل…
أن يولد من جديد، والمارة يتدافعون خوفا من البلل …صار الطريق خال تماما والأرصفة فرشت مطرا …رائحة المطر تنعشه تنزع عنه لحاف الكآبة المميتة …لكن المطر لا يدوم طويلا . رفع رأسه المنغرس أرضا ليتمتع بمنظر العالم مبتلا لتقع عيناه على شخص مثله ذي معطف أسود وذي مشية بطيئة …
مشية تنذر عن عشق للمطر…ظل يراقب وقد حدثته نفسه بأن يقطع الطريق حتى تتسنى له الرؤية عن قرب …رفعت رأسها فوجدت ناظرا فضا يقترب منها قائلا: »يا عاشقة المطر … » بصوت ليس غريبا كمن يلقي القصيد.. ثم صمت، أربكها كثيرا هذا القول الغريب من شخص غريب بارد الملامح …نظرت مطولا لعيينيه وكأنها تحاول قراءة ما ورائهما قبل أن تقول: » كم غريب أن يعلم غريب عشقي للمطر » كانت تحاول أن تكون بلا ملامح مثله …قال: »بل الغريب أن لا أعرف… »
قالت: »أعشق المطر وأعشق الشتاء …مثلك » نظرها ولم يفطن لكم من الزمن ظل محدقا في تلك العينين الشتوية و لكأنه يحاول إختراقهما…الإنغماس في تفاصيلهما..عيون ليست غريبة… كم تشبهه وكم … أزاحت ستار الصمت للتتخلص من تحديقاته المبهمة المعنى، قالت : »ما أحوجنا لهكذا صباح …ما أحوجنا لمن يشبهنا. »
تسمر مكانه وقد فهم ما ترمي إليه …هي إذا تعلم أنه يشبهها… رفع حاجبيه مودعا إياها خائفا أذاها … ثقيل الخطوة يمشي والعقل مغيب هائم وصل المكتب متأخرا، لم يعتذر من مديره، لم يشرب قهوته، …
في المساء عاد سريعا لبيته و كأن فيه ما ينتظره …اتجه للرف باحثا عن دفتره، وجده، فتحه وأمسك بيده اليسرى قلما أسود وصار يخط بأصابع مرتعشة .. » عيناك أه من عيناك …خنجر يطعن ليحيي، عيناك أه من عيناك …شتاء ينشر الدفئ ولغز سرمدي وجد كي يسرق…يسرق ماذا؟ …
قلوب أنهكها عواء السماء ونواح الأتربة المبتلة مطرا …دمًا. عيناك كأيام المطر، تسقينا حبا تغرينا بالمشي فيها ولها و تردينا مرضى أخرها …تتركنا وترحل، لا تهتم لمرضنا ولألامنا …
أبدا لا تهتم…اليوم نظرتُك، تكلمتك وهربت منك إلى دفتري … » توقف حبره فجأة ورمى بالدفتر بعيدا غير مصدق أنه تمكن أخيرا من أن يكتب شيئا عليه …إعتصر رأسه رهبة، بحث عن سجائره …لم يجدها، نسيها، كم غريب أن ينسى فتاته، هو يعرف السبب …ذات العينين الشتوية! …
لا تنسى فتاة الا بفتاة أخرى أكثر قوة ..ما عجزت عنه فتاته الأولى حققته الثانية جعلته يكتب …وهو التائب عن الكتابة … نبضات قلبه تقرع كطبل وأنفاسه متسارعة ملتهبة …عليه أن يجدها، هو يؤمن أن الرب سيبعث له بإشارة ما ترجعه للحياة من جديد … ليلتها لم ينم ، لم يدخن …ومع أول خيط شمس إنطلق باحثا ، إنتظرها لساعات ولم تأتي وتحولت هذه الساعات شيئا فشيئا إلى أيام فشهور …فسنوات …
هاهو ينتظرها على نفس الطريق ،بعد يومين يصبح ثلاثينيا، و مازال على حاله مع سجائره و دفتره المتروك وقد تناثرت خيوط الشيب هنا وهناك…حياة تعيسة يكسوها أمل اللقاء…ينتظرها و يعلم أنها ستأتي قريبا …ولا ضير في خسارة المزيد من السنوات … يجلس على قارعة الطريق،يدخن و يدخن …
يدٌ سمراء تمتدُ من السماء لتوضع على كتفه المنهك و صوت فيروزي شتوي يقول: »يا عاشق السجائر … » لوهلة ضن أنه يحلم …رفع رأسه لتسقط عيناه في متاهات العيون الشتوية ،أي كلام ،أي لغة ،أي عيونٍ ستعبر عما حصل في قلبه الصغير …أيُ مطرٍ…
قالت ضاحكة : »أنسيتني! » قال بعيون على حافة البكاء: » يقتلني في نفسي أني لا أنساك، أني إذا ما تنفست تذكرت هواك، كلما دبت قشعريرة فيْ إرتسمت في عيني عيناك و كلما أبصرت إنعكاسي في المرآة أراك … ». تسمرت للحظة قبل أن تقول:شاعرٌ إذا …وأنا أعشق الشعراء. »
قال: » لست شاعرا ،لكن عيناك الشتوية تجبرني ، تجعل العالم يمطرٌ بداخلي…و هي لم تمطر عندي منذ ست سنوات! » قالت: »كلامك يربكني …تبدو لي مجنونا لا غير. »
قال: »أريد أن نتشارك قهوة هذا المساء …لقد غبتي كثيرا عن هذه المدينة…غبتي و غيبتني . » قالت : »أشاركك قهوة و سيجارة إن أردت… »
ضربا موعدا في أحد المقاهي الخشبية، إنتظرها لساعات،…لم تأت …ربما غيابها لن ينتهي، ربما معاناته لن تنتهي …مزق دفتره ونام على كرسي محاذ لأحد نوافذ المقهى …أنتهى هو ودفتره …
بقلم: ويئام بالحاج-المعهد العالي للدراسات التطبيقية والإنسانيات بالكاف