دراسة حول الشـــعر العــربــي-أدب وفن
كان الوصف
والمديح والغزل من أهم مواضيع الشعر العربي العمودي وكثيراً ما ضُمِّـن الغزل في
مطالع قصائد الوصف والمديح كوقوفٍ على الأطلال وكثيراً أيضاً ما كان يشكل معظم جسد
القصيدة العمودية حتى ولو كان موضوعها الأساسي لا يمت إلى الأطلال بصلة .وبسبب أن
الأحبة لم يقلعوا بعد عن عادة الموت تراجعت قصائد المديح لصالح الرثاء , وظل الوصف
حاضراً سواءً في وصف الممدوح أو الحبيبة لذا سوف آخذ موضوع الوصف هذا كمثال أساس.
في عصر لم
توجد فيه بعد محطات الإذاعة المسموعة والقنوات المصورة والصحف المكتوبة كان الخبر
بحاجة إلى وسيلة انتقال هي المسافرين, ووسلية تخليد هي الشاعر الناطق بلسان
القبيلة ومنبرها الإعلامي فاحتفل العرب متفاخرين بولادة شاعر في القبيلة , حيث أخذ
الشاعر دور الإعلامي, فالشاعر الأقوى يمتلك لقبيلته قناة مسموعة أوسع انتشاراً ,
من
هنا كانت كلمة شاعر ضيقة لا يمكنها أن تعبر عن كل المهام المنوطة بالشاعر كما أنها
لم تكن دقيقة فليس ما يكتبه الشاعر كان دوماً متعلقاً بشعوره الذاتي بل كان يمليه
عليه انتماؤه القبلي والواجبات الملقاة عليه منذ أول احتفال بولادته الشعرية . فهو
(الكاميرا) التي تلتقط صور المعارك فتصفها من الخارج, صحيح أنه يقوم بذلك بنوع من
الفخر بالانتماء لكنه لا يختلف عن كاميرا الصحفي الذي يقوم بالتقاط المشاهد التي
تتفق مع اتجاه الوكالة الصحافية التي يعمل لديها.
وما أنا إلا
من غزيّـة إن غوَتْ
غويتُ وإن
تَرْشدْ غزية أرشدِ
حتى المديح
اعتمد على المبالغة في تعظيم شأن الممدوح وكانت الغرابة والإدهاش أهم من الصدق ,
كما في قول أبي النواس _ في عجز البيت – : » وتخافك النطف التي لم
تخلقِ »
حتى في قول
عنترة متغزلاً:
وددت تقبيل
السيوف لأنها
لمعت كبارق
ثغرك المتبسمِ
نجد هنا
الرغبة واضحة في المجيء بصورة جديدة مدهشة , فلا يمكن لفارس في المعركة وهو يجندل
الفرسان أن تنتابه الرغبة في تقبيل السيوف لأن لمعانها كلمعان ثغر الحبيبة, نستطيع
أن نتفهم كيف يرى العاشق كل الكون جميلاً وأن الصحراء مرج أخضر فقط لأن حبيبته
تسكن فيها , لكن هذه المبالغة الجميلة والصورة الأخاذة لا تجعلنا نصدق أن ذلك
الشعور قد راود حقاً عنترة وهو في خضم المعركة.
إلا أن
الواجبات الجمة التي كانت ملقاة على عاتق الشاعر عموماً كانت تبرِّرُ له أن يقول
بقالب شعري أشياءً لا صلة لها بشعوره الذاتي .
إضافة إلى ذلك
فبسبب البنية العروضية غير المرنة للشعر العمودي يضطر الشاعر إلى استخدام جملٍ
شعرية بهدف الحشو وذلك لكي يكمل الجملة العروضية , أشبّه ذلك بأن يكون لديك مقطوعة
موسيقية جاهزة اسمها ( البحر الفلاني) ولا يطلب منك فقط أن تؤلف جميع أغانيك عليها
بل وأن تراعي في التأليف الطول الثابت للجمل الموسيقية , أما في شعر التفعيلة فإن
الموسيقى تمشي مع النص الشعري جنباً إلى جنب ولا تفرض عليه في التأليف طول الجملة
الشعرية , بل أن الجملة الشعرية المقفاة يمكن لها أن تكتمل مع اكتمال التفعيلة
الواحدة أو قبل اكتمالها ويمكن أن تغيب
القافية طويلاً وأن تدوَّر السطور الشعرية حتى ليفوق طولها طول بيت شعري عمودي على
البحر الطويل بل أزيد بكثير. فبحور العروض تملي عليك أنفاسك الشعرية أما قصيدة
التفعيلة والشعر الحر فهما أكثر رحابة وأوسع صدراً .
وإذا كان شعر
التفعيلة غريباً عن الجزيرة العربية فهو ليس كذلك في العراق وبلاد الشام على أقل
تقدير.
تظهر العراقة
هنا في أنه بالرغم من أن مدناً عريقة في الموسيقى مثل حلب غنّـت (أمان، أمان)
متأثرة بالأتراك بينما بقي الريف ومدنٌ أخرى يغني الدلعونا والميجنا والليّـا
والسكابا والعتابا التي ينتهي كل شطر رابع فيها من ألف وباء ساكنة وتختلف من حيث
القافية
عن الأشطر الثلاثة التي تسبقها وهي بذلك سبقت من حيث الشكل قصيدة التفعيلة التي
كتبها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة, على الرغم من الاختلاف حول أسبقية الواحد
على الآخر.
كان هذا اللون
الشعبي من الغناء هو أساس نشوء التربيع والتخميس في الشعر العمودي وذلك أبان
الدولة العربية المترامية الأطراف واطلاعها على تراث شعبي غني يختلف عن الشعر
الشعبي الذي عرفته الجزيرة العربية والذي يقتصر على الشعر العمودي العامي
والمستخدم إلى اليوم باسم ( الشعر النبطي),
فالخلفية
الثقافية والتاريخية والحضارية عموماً للأقاليم العربية فيها من الاختلاف ما يجعل
من أمرٍ ما مقبولاً هنا ومستهجناً هناك. قال أحدهم لأبي العتاهية أن بيت شعره هذا
فيه لحنٌ، فقال له : ( إنني خُلقت قبل
العروض) والشعر العربي القديم مليء بأبيات شعرية ٍ لشعراء كبار لا تستطيع أن
تنسبها لإسم بحر معين لكننا نجلُّـها وبنفس الوقت لا نستطيع أن نجلَّ قصيدة تفعيلة
سليمة عروضياً , فنحن اليوم نقف مع العروض أكثر من أهل العروض.
• بعد
اختراع
آلة التصوير وخاصة الملونة منها تراجعت مدارس الرسم التصويرية حتى تلاشت، لأن ريشة
الآلة كانت أدق وأرشق في التقاط اللحظة. كذلك عندما تولت وسائل الإعلام الأخرى
مسؤولية نقل الحدث والتسويق له أو ضده تقلصت مهام الشاعر وانكفأ إلى واجبه الأوحد
وهو الشعر المعبر عن ذاته الداخلية والتي ينطلق منها إلى الخارج فلم تعد كلمة شاعر
ضيقة عليه بل أصبحت أدق وصفاً له، بل إن المدنية الحديثة زادت من سرعة إنكفاء
الشاعر
إلى ذاته وسؤاله عن معنى وجوده فكتب قصائده انطلاقاً من الإنتماء إلى الذات بدل
القبيلة أو بدلاً من الكتابة كردِّ فعل على الحركات الشعوبية آنذاك.
فالإشكالية
اليوم ليست كما تظهر في أنها إشكالية بين الشعر العمودي والتفعيلة والشعر الحر،
المشكلة أن الشعر العمودي اليوم ما زال يتكلم إما عن مواضيع الأمس وإما عن مواضيع
اليوم متناسياً أن الكاميرا وغيرها من وسائل الإعلام قد تم اختراعها.
ما زال الشاعر
العمودي يلقي قصيدته دون أن نراه فيها لنقولَ عنها أنها شعرٌ وليست نظم.إضافة إلى
أن القصيدة العمودية اليوم ما زالت تستخدم نفس طرق البلاغة القديمة من تقديم
وتأخير وجناس وألفاظ جزلة فإذا كان الخطب جلل استخدمت الطاء والجيم وقوافي الراء
والقاف وإذا كان الموضوع وجدانياً استخدمت السين والميم وهكذا، كل ذلك في قالب
معدني ثابت من العروض .
لا يمكن لأحد
أن يحتكر طرق التعبير وأن يصادر محاولة البحث عن ينابيع َ أخرى في اللغة طالما
أنها كائن حي تموت بعض مفرداته لتولد أخرى، ويتغير مدلول الكلمة عما كانت عليه،
فالسيارة قديما ً كانت تعني القافلة التي تسير(ووجدته سيارة في البئر)(سورة يوسف)،
أما اليوم فهي تعني بكل وضوح عربة ميكانيكية تسير على أربع عجلات لا أكثر ولا أقل.
– ثم أنه
جميعنا يعرف أن البحر الطويل – وقبل اكتشاف الفراهيدي للعروض – استنبطه
العرب أثناء التأليف وهم على ظهور الإبل يحدونها به في مسيرهم فجاء
البحر يتفق إيقاعاً مع مشيتها، وكذلك فإن بحر الخبب أتى اسمه من مشية الخيل حين
تخب خباً. أي أن العرب كانت تكتب على أوزان تتفق مع تواتر وتوتر حيواناتها التي هي
جزء هام جداً من بيئتها.فمن الأَوْلى اليوم أن يكتب الشاعر وفقاً لتوتره الذاتي
الذي صاغته بيئته الجديدة والمدنية الحديثة من أن يكتب وفقاً لتوتر مواشيه التي
هجرها منذ مدة طويلة. بهذا كان العرب القدماء أكثر منا انسجاماً وإخلاصاً لبيئتهم
التي عاشوا فيها وتعايشوا معها.
المفارقة أنه
حين تسقط الشاعرية عن الشعر العمودي نقول عنه أنه نظمٌ، بينما حين تسقط هذه
الشاعرية عن شعر التفعيلة أو الشعر الحر بشكل خاص نقول أنهما خراب، ومؤامرة على
التراث ووباء وافد إلينا .
• على الرغم
من أن قصيدة التفعيلة لم تكن ثورة على القديم كما نظن بل كانت تغييراً طفيفاً،
ولدتْ وهي تكنُّ كل الاحترام والتبجيل للشعر العمودي، يكفي لإدراك ذلك
مراجعة ديوان نازك الملائكة
حتى تتملكنا الدهشة لهذا الهجوم الشرس الذي لاقته هي وبدر شاكر السياب، دون أن
ننسى أن قصيدة التفعيلة آنذاك لم تكن تمتلك نفس الجرأة التي تمتلكها اليوم.
لكن أولياء
الشعر العمودي كانوا آباءً يريدون أبناءً نسخة طبق الأصل عنهم ولم يكن هذا الأب
متساهلاً في الرجوع خطوة إلى الوراء حين كبر الأبناء، كان حقاً الرأس الذي رفض أن
يشيب رغم تقدمه في السن .
بقي كل من
الوزن والقافية في الشعر العمودي والتفعيلة يلعبان دور المنقذ للسيء من القصائد
بحيث أصبح بالإمكان القول عن قصيدة ما: إنها لحن جميل لكن معنى القصيدة / الأغنية
غير موفق. وإذا كانت القصيدة المعنية تلقى من على المنبر فإن استعراضية القصيدة
العمودية خصوصاً تشغلنا عن التقاط قِيَمِها،
فلم يكُنْ خلوّ هذه القصيدة من القيم اللازمة يشكل لها فضيحة تذكر مع أنها
تلقى في العراء أمام جمع غفير.
• وردت
في
الدوريات المحلية في سورية آراء اعتبرت « أن قصيدة النثر هي طفرة
لن تؤسس
لاستمرارية أو تطور وإنما هي محاولة للخروج عن المألوف »
وأنا لا
أستطيع أن آخذ الحدث مبتوراً عن روابطه الجغرافية والاجتماعية، لذلك علينا أن نعود
بذاكرتنا إلى قصة الشاعر الأعرابي ( علي بن الجهم ) حين قال مادحاً أبو جعفر
المنصور :
وإنك كالكلب
في حفاظك للعهدِ وكالتيس في قراع
الخطوبِ
فثارت عليه
الحاشية لكن المنصور طلب أن يُلقى الشاعر بين الجواري وفي حياة المدينة بعدها قال
قصيدته العذبة الشهيرة :
عيون المها
بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري.
وقال المنصور
عبارته الشهيرة أيضاً:) صحيح أن للبيئة تأثير على العبقرية).
حين دخل العرب
الأندلس دخلوا بلاداً تفوق بلادهم خضرة وماء ووجهاً حسناً فخلّفوا فيها تحفاً
معمارية مثل قصرَيْ الحمراء وغرناطة اللذين لم يبنوا لهما مثيل في أية بقعة عربية
حتى في بلاد الشام، وخلفوا شعراً سُميَ بالموشحات خرج على رتابة الشعر العمودي
فحدث لهم ما حدث لصاحبنا الشاعر ( علي بن الجهم ) حتى أنهم كتبوا قصائد فيها
الكثير من المفردات الأندلسية دون أن تخطر لهم فكرة المؤامرة، هذه الفكرة التي لا
تولد إلا من واقع الشعور بالضعف.
ألْبَ دِيَّـه
أشْتَ ديـه ديـه ذا العَـنْصَـرَ حقاً
بِشْـتَرى
مُوّا المدبّـجْ وأشـق الرمـح شقـّا
مثلما ولد هذا
الفن الجديد في البيئة الجديدة تراجع هذا الفن عند خروج العرب من الأندلس إلى
بيئتهم السابقة، ولم يكن سبب تراجع الموشحات هو في كونها طفرة على الشعر العمودي.
إن الموشحات اقتُـلعتْ من تربتها الأم أما الشعر العمودي بقي في تربته التي ولد
فيها.
– صودر كتاب (
الشعر الجاهلي) لطه حسين لأنه حاول أن يقرأ
التراث حسب منهج ديكارت الفلسفي في أن يبدأ الباحث بحثه متجرداً تجرداً كاملاً من
أفكاره المسبقة عنه. فإلى اليوم ما زال التراث – ومن ضمنه الشعر الذي هو ديوان
العرب- يشكل في لاوعينا طوطماً غير قابلٍ
للمس، بينما كانت العرب تأكل أصنامها عند
الحاجة أو تحطمها رغم أنها مستوردة استيرادا ًمن بلاد الشام.
• أما
قصيدة
النثر أو الشعر الحر فلكونها لا تمخر بحر العروض ولا تقف في موانئ القافية ظن
البعض أن عليها أن تبرهن شاعريتها، وأسقطها البعض الآخر من كونها شعراً،
بينما كان الأجدر بنا أن نحاول أن نكتشف سر هذه
الشاعرية في قصيدة تجرأت علينا وخلعت ملابس الشعر التقليدية وأصرت على كونها
شعراً. لن أقول كما قال البعض أن شاعرية الشعر الحر تكمن في الموسيقا الداخلية
والقوافي الداخلية أيضاً والتضاد اللفظي كل ذلك جيد لكن قصيدة النثر تشترك مع
الشعر العمودي والتفعيلة في كل هذا، إضافة
إلى أن هذا القول يعبر عن عدم القدرة بعد على سبر ماهية هذه القصيدة كما أنه يحاول
أن يوصل رسالة توفيقية- مقصودة أو غير مقصودة- تقول: إن قصيدة النثر لم تهجر
الموسيقا والقافية بل أن لها موسيقاها وقوافيها الخاصة بها مثلها مثل الشعر
العمودي، يكفي أن نراجع الكتابات الشعرية -والنثرية أيضاً- لرائد الشعر الحر
« محمد الماغوط » لنرى كيف يهرب من القافية حتى وإن أتت هي لتلتقي به حتى
في كتاباته النثرية. حين قال: »آه يا لقمة العيش الصغيرة، أنت إسرائيل
الكبرى » ألم يكن باستطاعته
وبكل بساطة أن يقول » أه يا لقمة العيش الصغرى , أنت إسرائيل الكبرى.
– وحاول البعض
الآخر الربط بين الشعر الحر والتداعيات
الرومانسية اللاواعية في دراسة لـ(أغاني القبة) للشاعر
( خير الدين
الأسدي ) لكنني أعتقد أن هذا التداعي هو صفة من صفات
الاتجاه الرومانسي الذي ساد وقتئذٍ ولا يصف الشعر الحر، يمكن للشعر الحر أن يكون
رومانسياً ورمزياً وغامضاً ومشتتاً ومتماسكاً ومباشراً وموحياً، فهو تهزه
نفس الرياح التي تهز أنواع الشعر
الأخرى دون أن يفقد خصوصيته.
• إن عدم
الوصول – حتى عالمياً-
إلى تعريف محدد للشعر يعني ضمناً الإعتراف بأن الوزن والقافية فقط لا يجعلان من
النص شعراً، وطالما أن هنالك قصائد موزونة
ومقفاة وهي ليست شعراً بل نظماً فإنه احتمال وارد بقوة ألاّ يكون الوزن والقافية
أحد الأسس التي تبني عليه شاعرية النص الأدبي. بل هو نوع من التجويد الذي استُحسن
لفترة طويلة في عصر كان إطراب النفس فيه يتم ذاتياً في معظمه وليس خارجياً عن طريق
المذياع، جميل أن يبقى هذا التجويد لكن
غير الجميل أن يحتكر ساحة الشعر لنفسه مانعاً أية منافسة
.
ثم أن مقولة:
أن الشعر يقول الكثير بكلام قليل فهذه أيضاً صفة من صفات الشعر وليست تعريفاً
له، و إلا لكان القرآن الكريم شعراً بسبب
غزارة معانيه المعبر عنها بإيجاز بليغ.
ثم أن هنالك
مقولة أخرى تحاول أن تنفي صفة الشعر عن قصيدة النثر اعتماداً على اسمها المؤلف من
» لفظتين غير متجانستين » هما » قصيدة النثر » دون الغوص في
الدعائم الأخرى _ غير العروض والقافية_ التي تجعل من النص شعراً، دون أن
ننسى الكم الهائل من القصائد العمودية
التي لا تحمل قيمة فنية أو جديداً ما ولكن شفعت لها الموسيقى والقافية فكانتا
ستاراً لمواهبَ لا تطلب السترة .
وإذا كانت
قصيدة النثر تقليداً للغرب وليست استجابة لتغير البنى الاجتماعية والثقافية – كما
قال البعض-فهذا يعني أن نكتفيَ بالشعر العمودي من جهة وبالمقامات الهمزانية والخطب
العصماء على شاكلة » ما فات مات وكل ما هو آتٍ آتْ … » . فالمقالة
تقليد وكذلك المسرح و الرواية فهم جميعاً صنوف أدبية وافدة. وإذا كانت عبارة
» الشعر ديوان العرب » شديدة الحضور في مخزوننا الثقافي العربي فلأنها
ولدت في بيئة صحراوية عموماً ولا تسمح بتسجيل آثار العرب على الصروح الشاهقات
والنقوش المدفونة، فهي وُلِدتْ في بيئة
يرتحل عنها المقيم ليقيم في مكان آخر وليس أسهل من الشعر ليحمل أخبار أناس فرضتْ
عليهم البيئة فِعْل التنقل. دون أن ننسى أن ديوان العرب المقصود يعود في جلِّـه
إلى الشعر الجاهلي والجزيرة العربية متناسياً العرب الذين يعيشون خارج الجزيرة وفي
بيئة حضرية جميلة الطبيعة كما في بلاد الشام والعراق.
كما أنني وقعت
على شهادات مختصرة ومكثفة اتسمت بالانفتاح
على قصيدة النثر مما يبقي باب الأمل مفتوحاً على أننا انتقلنا من مرحلة الخوض في
نقاش حول جنس هذا المولود الفضائي الغريب وشرعيته إلى النقاش الجاد حول مكامن
الشاعرية وأسسها وخصوصية هذه القصيدة.
أقول هذا
بالرغم من أنني كاتب لقصيدة التفعيلة أكثر من النثر لكنني غير محصن ضد الإنفعال مع
القصيدة الجميلة مهما كان نوعها واسمها حتى القصائد التي بعض أسطرها عبارة عن
أشكال هندسية أو رسومات بسيطة لكنها معبرة بكثافة مدهشة كما فعلت الشاعرة العراقية
» كولّالة نوري » في مجموعتها « الدولفين » .
وكما قالت
إحدى الشهادات هناك من استسهل قصيدة النثر كما استسْهلت فنون أخرى كثيرة تم التعدي
عليها.
ماذا يعني أن
يكتب موظف متقاعد كتاباً في التداوي بالأعشاب وهو لم يمارسها سابقا،ً ألم تبدل
الخيّـاطة اسمها في كثير من الأحيان ليصبح مصممة أزياء.
صحيح هم كثر
من تجرؤوا و أدلوا بدلوهم في مجالات لا
تناسبهم ولكن ما يهم هو من رفع دلوه ممتلأً ماء كي نقول أن هذه البئر صالحة للشرب.
وفي معرض
استسهال البعض لقصيدة النثر، أريد أن أورد مثالاُ قد يعتقد البعض أنه مثالٌ غير
موفقٍ كوني أسوقه في معرِض الدفاع عن قصيدة النثر، والذي هو دفاع عن حرية التعبير
والتجريب أكثر منه دفاعاً عن جنس أدبي معين،
كلنا يعلم أن
مخزوننا الشعبي يقر بأن الوقوع عن ظهر حمار أشد أذىً وإيلاماً من الوقوع عن ظهر
حصان أو جمل، رغم أن قوائم الأول أقلُّ ارتفاعاً ، وطبعه ومزاجه أقل جموحاً بكثير.
ولكن لو أتينا
بشخص لم يسبق له أن امتطى دابة في حياته وخيرناه بين هذه الأنواع الثلاثة فسوف
يختار ركوب الحمار ولا ريب، غاضاً بصره عن الأنواع الأخرى. لماذا لأنه يستسهله فهو
أقل مخافة مقارنة مع غيره، ناسياً أو متناسياً أن الوقوع عن متنه يعني ضرراً أكبر
، وناسياً أيضاً أنه حتى لو أجاد امتطاءه فسوف يبقى في نظر المحيط راكباً حماراً
لا أكثر ولا أقل.
صدقوني هذا ما
حدث تماماً مع المتعدين على قصيدة النثر، أنهم استسهلوها فخبـّـوا عبابها دون أن
يأخذوا بعين الاعتبار أن فشلهم سوف يطيح بهم إطاحة لا وقوفاً بعدها في عالم الشعر.
لأنهم أساساً
لم يركبوا متناً معتبـراً في نظر المحيط الأدبي ، ثم أنهم حتى لو أجادوا فإن
إجادتهم هذه لن تكون ذات تقدير كبير لأن هذا الجنس الأدبي الذي اختاروه ما زال
يُنظر إليه على أنه ينتمي إلى غير عالم الشعر.
فلو أنهم
ركبوا جَمَـلَ الشعر العمودي وسقطوا لقال قائل هذا نظم وليس شعر وبالتالي لحُفظ
ماء وجه صاحبه ، أما أن يسقط عن ظهرِ حمارِ الشعر الحر فتلك ثالثة الأثافي وكبيرة
الكبائر لراكب لم يستطع أن يمتطي مجرد « حمار » .
– لإكمال
وجه المقارنة أقول : إن قصيدتا النثر والتفعيلة هما أشد فائدة في
البناء في عصرنا هذا مقارنة مع قصيدة العمود، لأنهما الصدر الأرحب في استيعاب
نَفَـس العصر وإيقاعه وتنوع تجاربه وهواجسه ومتطلباته لكن تحتاج إلى فارس ٍ كرّار
، وليس إلى غر ٍ فرّارْ.
–
فالمشكلة تكمن فيمن استسهل قصيدة النثر تحديداً، وفيمن أتاح لهؤلاء في تصدر
الدوريات الأدبية والصحف اليومية، وفيمن قصروا عن دراسة هذا الجنس الأدبي الجديد.
فبقي جنساً متهماً بالهزيمة سلفاً، فإذا ما انتصر جولة هلَّـلْـنا له ولكاتبه كما
حصل مع الماغوط. ولكن هذا لم يشفع لقصيدة النثر فنحن قوم ما زال يحكمنا المثل
القائل » الهزيمة يتيمة ، وللنصر ألف أبٍ «
• ظهرت
قصيدة
النثر تحدياً لأدوات قياسنا المستخدمة في التفريق بين النص العادي والنص الشعري
وخصوصاً لتلك المقولة القديمة الساذجة التي تقول : بأن الشعر هو الكلام الموزون
المقفى. اعتاد طلاب مدارسنا في امتحانات اللغة العربية على السؤال الشهير: (اشرح
الأبيات التالية وأعرب ما تحته خط ….الخ).هذا السؤال لا يصلح في الشعر الحر ولا
يستطيع الإحاطة به , علينا ابتداع أسئلة خاصة بالشعر الحر لا تنطبق في معظمها على
سواه وعندما نستطيع ذلك يمكننا القول أننا بدأنا في اكتشاف أدوات قياس شعرية
جديدة. الشعر الحر امرأة جميلة من دون
زينة وتمس شغاف القلب لكننا اعتدنا الانجذاب إلى النساء المتزينات.
بالمناسبة
للنقاد هنا فرصة تاريخية – نعم تاريخية- لن تتكرر بسهولة هي أن
يكتشفوا الشعر الحر وأنا في شغف للإطلاع على اكتشافهم المنتظر، فيكون لهم فضل
السبق إلى ذلك. أن يكتشفوه ويعبروا عن اكتشافهم بكلمات بسيطة بعيداً عن التعابير
القاموسية الجافة. لا أن تبقى الدراسات النقدية سائرة خلف أسماء بارزة ومعروفة .
جيد أن تقرأ كتاباً بعنوان ( الفضاء
الشعري عند نزار قباني) لكن نزار كونه عظيماً لن يجعل ذاك الكتاب عظيماً فنزار
قباني موجود بقوة خاصة في الوسط الجماهيري سواء في السر أو في العلن، دون أن ننسى
أنه هوجم كثيرا ً قبل أن يفرض نفسه.
لا أدعي أنني
قرأت كماً هائلاً من كتب النقد ولكنك تصاب بالإحباط وأنت تقرأ
سلسلة كتب ( نظرية الشعر العربي) وآراء مؤسسي مجموعة أبولو والديوان، وطريقة تهجم
بعضهم على القصيدة العمودية بدلاً من تسليط الضوء بعمق كافٍ على نتاجاتهم هم.
والأسوأ من ذلك أنك تدخل في متاهة الرد والرد على الرد دون المساس عن قرب كافٍ
بالموضوع الرئيس كل ذلك في خضم جدل بيزنطي لا ينتهي. فبُـذل من قبلهم جهد كبير في
إثبات عدم شاعرية أحمد شوقي ووروده معانٍ معاكسة تماماً لما يريد قوله وكأن ذلك
كافٍ لإصدار حكم الإعدام على القصيدة العمودية، وقع رواد الشعر غير العمودي في نفس
الخطأ الذي وقع فيه رافضوه وهو إلغاء الآخر.
يميل الإنسان
إلى ألفة القديم والريبة من الجديد لذا نجد أن الضجة التي
أثيرت ضد شعر التفعيلة أيام نازك الملائكة وبدر شاكر السياب تُثار مجدداً ضد الشعر
الحر، والمشكلة أنه كلٌ تحصن داخل رأيه لا يحاول الانفتاح على الآخر. الأول يريد
الحفاظ على التراث والثاني يريد بَعْثَ هذا التراث. والإثنان يبكونه معاً، فأرجو
ألا ينطبق علينا قول الشاعر ت.س.إليوت خاتماً قصيدته (الرجال الجوف) 🙁 هكذا ينتهي
العالم/ ليس بِدَويٍّ، ولكن بنشيج).
•
سوف يتجاوزنا الشعر الحر على أيدي مبدعين مثل محمد الماغوط إلى أن يظهر
تيار شعري جديد فننقل السجال إلى ساحة أخرى، نحن لا نتقبل شيئاً إلا حين يَـفْـرُض
نفسه علينا كأمر واقع، وهذا ليس من صفات المجتمع المبدع الباحث دوما ًعن التجديد
أو غير الواقف في الحاضر فما بالك في الماضي.
لـــــ: حسن عبدا لله إبراهيم