ملخص رسالة الغفران: المضامين والقضايا
1- مظاهر الهزل والسخرية:
ليس الضحك بغريب عن النثر الفني ولا هو بالأمر المتكلف فيه، فبعون النثر تحفل به وتحتفل به، من كليلة ودمنة والحيوان اللذان يصر كاتبهما على أن الضحك مما يحتاج إليه إلى الإمتاع والمؤانسة. ومن مظاهر الإضحاك انتقال ابن القارح إلى الآخرة بمعاييبه من خلال محاولة رشوة الحارسين رضوان وزفر بأشعار مسروقة.
السخرية من ابن القارح:
السخرية بالمفارقة: بين القول والفعل: ابن القارح يدعو إلى عدم العربدة إلا أنه يعربد ويدعو إلى عدم التخاصم ويخاصم ويدعو نفسه إلى الصبر يوم الحشر ولا يصبر.
السخرية بالحركة: مشهد فرار ابن القارح من الحية التي راودته في الجنة يقول المعري:” فيذعر منها ويذهب مهرولا في الجنة”.
السخرية بالعبارة: استعمال غريب الألفاظ مثل “جحجلول وكفرطاب وزقفونة”.
ابن القارح شيخ يتصابى: في اختلاءه بالحوريتين.
ابن القارح أديبا: التكسب بالشعر.
ابن القارح عقيدة: ورد رقيق الدين منافقا يختلس النظر أثناء السجود ناظرا إلى الجارية.
السخرية من السائد:
السخرية من الأوهام مثل إيمان مادي مجسد بالجن والعفاريت وأنهم يتشكلون في أشكال مختلفة.
صور المعري الصراط ساخرا كما تمثله الانس عصرئذ مدخلا إلى الجنة من عبره سلم إلى جنته ومن تعثر كان على جرف هار فهوى به في نار جهنم.
السخرية من معتقد التعويض: السخرية من تحقيق ما كان ينقص الناس في دنياهم.
على هذا النحو أسس المعري الآخرة من غير أن يخرج عن الحدود التي يتمثلها فيها العوام مقيسة على دنياهم، فجعل مجهولها مألوفا وجعل سلوك ابن القارح فيها يبعث الضحك والتندر.
2- رسالة الغفران نقد للواقع ونقل لوقائعه:
لم يكتفي أبو العلاء في هذا النص بأن جعل بالضحك مألوفا لدى الناس مأنوسا عالما يتهيبونه ويتهيبون الحديث فيه، بل ضمن رحلة ابن القارح في الجنان كثيرا من المقولات الفكرية.
وفي مقدمة هذه المقولات العقل، فقد واجه أبو العلاء على ألسنة البعض من شخصياته بعض المعتقدات الواهية واتهم الانسان بالكذب وبالتزيّد في الأشياء ويصدق ما يكذب به على نفسه وعلى غيره من الناس. كما بسط المعري سلطان العقل على الماضي والمقبل من حياة الناس فأبطل ما تتناقله العامة من خوارق وعجائب لا يصدق بها المعقول.
لئن قال المعري في رحلة الغفران بإمكان الإستنارة بالعقل في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها إلى حلّ، فإنه قد نظر إلى الوضع البشري نظرة مسرفة في التشاؤم.
فالشرّ عنده متأصل في الإنسان التأصل الذي لم ينفع معه إعمال عقل أو لجوء إلى شرع والناس لا يقدرون على إلجام شهواتهم لا بالتدبّر والتّأمّل ولا بالخوف أو الرّغبة في الفوز والغنم. والذي حارت البريّة في صلاحه قد أوصدت ولا يدرون صلاحه الأبواب بل إن الشر في الانسان أصل والخير متكلف. والأصل غالب في كل الأحوال على الفرع قاهر له وهنا تكمن المأساة.
كان أسلوب المعري ومنزعه العقلي في الغفران باديا حينا ومتواريا أحيانا أخرى وراء السخرية والتهكم من السائد فيتحول ابن القارح إذا من ذات مقصودة إلى نموذج أو رمز لكل الناس. ويرتبط المنزع العقلي في هذه الرسالة بثورة أبي العلاء على السائد من حياة الناس كما يرتبط بحيرته إزاء المسلمات الفكرية المتعلقة بعالم الغيب.
أ- القضايا الأدبية:
استأثرت القضايا الأدبية بالنصيب الأوفر في رسالة الغفران ويبرز ذلك خاصة عن طريق ابن القارح الذي صوره المعري في الجنة متميزا عن سائر الشخصيات بالذاكرة والحفظ والرغبة في المحاورات الأدبية والمجادلات اللغوية. ولعل من أبرز هذه القضايا هي قضايا الشعر حيث عمل المعري على تقديم تعريف جديد للشعر يحتل فيه الذوق مكانة.
وقد ورد هذا التعريف على لسان ابن القارح لقوله:” الأشعار جمع شعر والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحسّ”. ويصرّ المعري على ضرورة توفّر السليقة والموهبة من جهة وعلى ذوق المتلقي من جهة أخرى وبالتالي ووفقا للمعري فإن الأدب الحق هو ما توفر فيه الإحساس وبالتالي يسقط من كل ديوان شعري كل غرض أدبي خلا من صدق العاطفة ولعل أوّلها المدح.
ب- القضايا الإجتماعية:
قام المعري في رسالة الغفران بنقد الطبقية الاجتماعية التي صورها عبر شخصياته في الجنة. ويبرز ذلك من خلال صورتين طبقيتين متناقضتين تتمثل الأولى في صورة الثراء الفاحش أما الثانية فتتمثل في الفقر ومثال ذلك قول المعري محدّثا عن ابن القارح عند عودته إلى الجنان:” ويتّكئ على فراش من السندس” ليوجه الأنظار فيما بعد إلى بيتين أو “قصرين منفيين” أولهما للحطيئة في قوله:” وإذا هو ببيت في أقصى الجنة كأنه حفش أمة راعية” ولعل من مظاهر الطبقية هي حضور الأسياد والعبيد والجواري في جنة الغفران…
كما نقد المعري الوساطة في المجتمع ويبرز ذلك من خلال تعجل ابن القارح في الدخول إلى الجنة وتوسط فاطمة له.
من خلال رسالته أثبت المعري تراجع قيم المجتمع وهو ما يفسر تضاؤلها في الرحلة لتحل محلها قيم مذمومة مثل الكذب والرياء والخداع حتى أضحى الصدق نشازا يجازى عليه المرء بالمكانة الحقيرة شأن الحُطيئة الذي فاز ببيت حقير داخل الجنة لأنه كان صادقا مع نفسه في حين يفوز غيره بالنعم وملذات الجنة عن طريق النفاق والكذب.
نلحظ في رحلة الغفران تهافت أصحاب الجنة على الملذات من خمر ومأكولات وحوريات وهو ما يفسر تعدد مجالس الخمر وأجناس المسكرات حتى أضحت الجنة “مهرجانا خمريا”.
وإلى جانب ذلك تفنن المعري في عرض حور العين خاصة وأن لبطله ابن القارح رغبة لا تنطفئ إذ يجمع بين حوريتين في مشهد واحد.
ولم يكتف المعري بنقد المجتمع فقط بل نقد وضعية المرأة التي اقتصر دورها فقط على مشهدين. الأول هو تحقيق المتعة لأهل الجنة والثاني هو الوساطة من خلال وساطة فاطمة لابن القارح وهو دور سياسي يذكرنا عادة بدور زوجات الأمراء والملوك في البلاط.
ت- القضايا السّياسيّة:
لم يتغير موقف المعري تجاه السياسيين، فالمواقف التي نجدها في مؤلفه “اللزوميات” نلاحظ تواجدها في الرسالة. فقد عاب المعري السياسيين على سياستهم من خلال إدارة الأمور بالهوى والنزوات فهم من العقل خلاء. كما نقد المعري الساسة نتيجة لظلمهم ويبرز ذلك بإدخالهم إلى النار فضلا عن إمعان تصويره لما يلقونه من العذاب فيقول:” والشوس لجبابرة من الملوك تجذبهم الزبانية إلى الجحيم”.
كما عبّر المعري عن توتر العلاقة بين الراعي والرعية. فالحاكم غائب وهو رمز السلطة السياسية فيما تقوم الحاشية باتخاذ القرارات ولم يقف عند ذلك الحد بل عمد المعري على نقد الجوسسة المنتشرة في عصره، إذ كان للملك عين كثيرة التنقل تنقل له ما في المجتمع وللتعبير عن ذلك قال المعري على لسان ابن القارح:” يجب أن يحذر من ملك يعبر فيرى هذا المجلس فيرفع حديثه إلى الجبار الأعظم فلا يجر ذلك إلا إلى ما تكرهان”.
ث- القضايا العقائدية:
الغفران: أعمل المعري فكره في قضية الغفران ووصلها بالعدل الإلاهي على غرار المعتزلة وانتهى إلى أن الأمرين يتعارضان لأن الله قد وهب الإنسان عقلا وبعث إليه بالأنبياء فلم يعد من داع للمغفرة بل إن العدل في محاسبته في ما أتى من أعمال.
ومن هنا نلاحظ الجدلية القائمة بين الفرق الإسلامية على المستوى الفكري.
الشفاعة: إذا كانت المغفرة تُطلب من الله فإن الشفاعة تُطللب من الرسول لتشمل آل البيت وتتسع دائرتها أكثر لتشمل قبيلة قريش. هكذا تصوّرها الناس في عصر المعري على اختلاف مذاهبهم. فالشيعة تجعل آل البيت شفيعا وأهل السنة شفيعهم الرسول.
أما الحرمة التي بها تتحقق الشفاعة في جنة الغفران هي الكلمة الطيبة. فكل من طلب الشفاعة عبر عن قدرة القول الحسن اخفاءا لسلوك خالف به تعاليم الدين فجعل الأعشى يدخل الجنة لأنه مدح الرسول في الدنيا. والمعري ينقد مثل هذا التصور الساذج للشفاعة لا لأنه لا يصل القول بالفعل فقط بل لأنه يتعارض مع العدل الإلاهي أيضا وهو أيضا يفتح الباب رحبا يغري الإنسان بارتكاب المعاصي أملا في الشفاعة على اعتبار بسيط ساذج.
فالأعشى حكم عليه بالالقاء في الجحيم ثم يشفع له الرسول ليبطل حكم الله ويجعل الأعشى في الجنة ثم إن هذه الشفاعة تجمع الفاسق والماجن في نفس المقام القدسي. ألم يستنكر النابغة الجعدي وجود الأعشى في الجنة فقال له:” لحقك أن تكون في الدرك الأسفل من النار ولو جاز الغلط على رب العزة لقلت لك إنك قد غلط بك”.
التوبة: مثّلت التوبة مبحثا من المباحث العقائدية التي أثارها المعري في رحلة الغفران فأبو العلاء يسخر من فكرة التوبة التي راجت بين الأوساط العامة. فالتوبة الحقيقية لا تكون إلا في مرحلة القدرة لتكون توبة اقتدار ومنع النفس عن هواها لا توبة اضطرار لما عجزت عن مأتاها.
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني