ملخص الشحاذ: الخصائص الفنية – بكالوريا آداب
خُلقت الأدوات الفنية للمساعدة على إجهاض عمل فني ما. فما هي الأدوات التي استعملها محفوظ في روايته؟
السرد:
ويتراوح حضوره بين وظيفتين:
وظيفة قصصيّة تقليديّة:
هو وسيلة لنقل تفاصيل حركة حقيقيّة قوامها التحول في المكان والتدرّج في الزمان والانتقال بين الشخصيّات كما يؤطر الحكاية ويكسبها الخصائص التقليديّة للرواية فيجعلها رسما لمغامرة عمر الحمزاوي وتفاصيل حركته في سعيه الدؤوب من التأزم إلى الانفراج أو يمنح من خلالها الحركة الذهنيّة إطارا منطقيّا لأنّنا لا نظفر عادة بأفكار تسبح في الخيال بل تحتاج إلى إطار قصصيّ واقعيّ يكسبها ما به يكون القصّ قصّا لذلك أخرجت الأحاسيس في قالب حدثي.
وظيفة ذهنيّة :
يخرج بموجبها السرد عن وظائفه التقليديّة فيستحيل رسما لحركة نفسيّة في الداخل لا حركة حقيقيّة في الخارج “كان يخففّ من ألمه بالاستسلام لجنون السرعة ” أو تصويرا للاضطراب داخل الذات لا للحركة في المكان ممّا يجعله سردا محكوما بالاعتباط وغياب المنطق .
“وغازلت شيئا لم يوجد بعد” بل إنّ السرد وإن أوهم بوظائفه المألوفة فبدا تعاودا لحضوره في الرواية الواقعيّة فإنّه يستحيل أشبه بالحوار الباطنيّ أو قائما مقامه، محكوما بانكسار الخطيّة وإخراج الحركة وأطرها مكانا وزمانا لا كما هي في الواقع بل متداخلة تنطق عن التمزّق وفوضى الحواس وتصادم الانفعالات وتعددت رحلاته بلا هدف إلى الفيّوم أو القناطر أو طنطا أو الإسكندرية .
ويندفع بجنون حتىّ يثير الفزع والسخط. وكثيرا ما يغادر القاهرة صباحا ثم يرجع إليها في صباح اليوم الثاني دون نوم. وقد يدخل دكّان بقّال ليسكر أو يجلس في التريانون لينام أو يشيّع جنازة لا يعرفها ولا تعرفه أو يغلبه النوم عقب الفجر فينام في السيّارة او على شاطئ النيل حتىّ الصباح. كما تبدو وظيفة السرد الذهنيّة أطغى متى بدا في أغلب مراحل النصّ محكوما بالاختزال “وأراد عثمان أن يعرف ماذا صنع مصطفى بحياته فقصّ عليه هذا قصّته”.
الوصف:
ويتراوح حضوره بين وظيفتين:
وظيفة قصصيّة:
وتبدو الوظيفة التقليديّة للوصف ترسم أحوال الشخصيّة” ابتسم مصطفى في سرور صبياني لمعت به أسنانه الناصعة البياض” أو تصوّر وجوه التحوّل فيها” في ضوء الشمس الغاربة تبدّت أنيقة وقورا رغم اكتناز جسمها الطويل ، “وملامح السياق الزمنيّ و المكاني” وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلاّت مبعثرة” إمّا مباشرة باعتماد تقنيات الوصف التقليديّة أو بتطويع بقيّة صيغ السرد للاضطلاع بوظيفة وصفيّة كقيام السرد مقام الوصف أو توظيف الحوار الخارجيّ لرسم الأحوال “لكنك سمنت جدّا كأنّك مدير شركة من العهد الخالي ..” كما يتصاعد الوصف في أحيان كثيرة ليتصّل بالواقع التاريخيّ فينطق عن البعد التاريخي السياسي.
وظيفة ذهنيّة:
وتدعمها سيطرة الوصف الداخلي على الخارجي وانتشاره في أغلب ثنايا النص انتشارا يجعله قراءة باطنيّة لأحاسيس الشخصيّة وانفعالاتها في خطاب كشف تمزّق البطل ونطق عن أزمته فانتشرت الأفعال الدالّة على الإحساس وتعددت الصفات الدالّة على بواطن الذات فلم يعد الوصف مجرّد نقل محايد لملامح الشخصيّة وصفاتها بل إبحار في باطنها ورحلة في انفعالاتها بل لعل انزياح الوصف عن وظيفته التقليديّة طال صلته بمكوّنات السياق فرسم الزمان رسما إيحائيّا لم يحاكي صورته الحقيقيّة بل مررّه عبر الذات لتطبعه بأزمتها.
“ها هي الشمس تتهاوى للمغيب”. قرص أحمر كبير امتصّ المجهول قوّته وحيويته الباطشة وأخرج المكان لا كما هو بل إخراجا مجازيّا خضع لسلطة الشخصيّة وصوّر انفعالاتها، فلم يعد الوصف خارجيّا يؤثث واقعيّا لسياق الحدث وإطاره بل انفعاليّا يرسم إخراجا نفسيّا لمكوّنات الواقع وتطويعا لها لخدمة الفكرة “تكهرب جوّ الغرفة في سكون الفجر” وتصوير الإحساس” الليلة الماضية كان الحبّ تجربة مريرة” خاصّة متى تخلىّ السارد في أغلب مراحل النصّ عن الوصف للشخصيّة فحوّل الرواية من منقولة إلى منطوقة والوصف من نقل للمكونّات إلى رصد للانفعالات.
والوصف في النصّ في أحيان كثيرة قائم مقام الحوار الباطنيّ ينطلق من الذات ليرتدّ إليها في صوت مسموع فيستعير من الإنشاء الاستفهام ليعمّق الحيرة” وهذه البسمة الغامضة… أهي للأفق؟” أو التعجبّ لينطق عن الأزمة” ما أضيعنا نحن العقلاء بين الاثنين..” ومن الخبر التقريري “هي هذه النشوة العجيبة الغامضة” ليوقن بالهزيمة التي يتوهمّ التطهّر منها حريّة وانعتاقا فيودعها ذات القارئ صورة عن الإنسان بمعناه النموذجي.
الحوار الخارجي:
ويتراوح بين:
وظيفة قصصيّة:
وتتضح بوجهين أوّلهما ما اتصّل بالحوار الغير مباشر الذي يحرّكه الراوي بالمقدّمات السرديّة إيهاما بانفصال الشخصيّات وغياب التماهي بينها في سياق الرمز ممّا يجعل منها عوالم مختلفة تدعم القصصيّة وتكشف بمحتوى الملفوظ عن ما غاب من مسيرة الشخصيّة أو من غاب من الشخصيّات أصلا “غمغم: إنّه في السجن” أو خفي من الأحداث” فقال وهو يدني وجهه: رغم فارق السنّ تزوجّنا، هو الحبّ كما تعلم، وفي بطنها الآن ينبض جنين هو ابني وحفيدك.”
وثانيها ما اتصّل بالحوار المباشر القائم على غياب المقدّمات السرديّة الممهّدة لملفوظ الشخوص والذي يوهم بالتماهي بين زمن السرد وزمن الحدث يقدّم صورة أشبه بالمشهد المسرحيّ وتضع المتقبّل أمام عالم أقرب للواقعيّ: واقع الأفراد في فضاء القصّ وواقع الشخوص في السياق التاريخي ّ لأنّ الحوار الخارجيّ بين الشخصيّات عادة ما يستحيل صراعا بين قراءات متعارضة للواقع والتاريخ.
وظيفة ذهنيّة:
وتتأكد متى انتصب الحوار كاشفا عن بواطن الشخصيّة إماّ على لسانها “التسوّل! في الليل والنهار…. في تحريك القلب الأصمّ بأشواك المغامرات الجهنميّة.” أو على لسان محاورها “لا تتعجلّ الشفاء لا يجيء بالسرعة التي تتصوّرها” بحيث ينقلب ملفوظها إطلالة على الخفيّ في ذات الآخر وإعلانا عن المسكوت عنه في إحساسه تأكيدا على أن الفواعل في رواية الشحاّذ ليست إلاّ أصوات يرددّ بعضها صدى بعض.
وتنكشف – أي الوظيفة الذهنيّة – متى انقلب الحوار حوارا فرديّا مسموعا يقوم مقام الحوار الباطنيّ إمّا بطبيعة الطرف الثاني للحوار” ونظر إلى الطريق بفتور كأنّما يخاطب شخصا أمامه” أو بطبيعة المقدمّة السرديّة تؤكّد فرديّة الحوار “وقال لنفسه مرّة أخرى :يا إلهي” وهو حوار يتنزّل في مرتبة وسطى بين الخارج والداخل وبين الحوار الخارجيّ والحوار الباطني فيأخذ من الأوّل أسلوبه ومن الثاني مضمونه ويقع عادة في النص في مناطق وسطى بين التجارب متعاودا متكررا يفضح أزمة الشخصيّة في كلّ مرحلة من مراحل مغامرتها في وجوه متشابهة فحواره مع زينب حين قررّ أن يهجر البيت.
“ألم أنصحك بأنه تروضيّ نفسك على قبول الواقع.
بل قل إنّك كنت تلطخّ كرامتك مع إمرأة ساقطة.”
هو ذاته حواره مع وردة حين داهمه هاجس الرحيل عنها:
“ولكنّك لم تعد تحبني.
أحبّك ولكن عاودني المرض.”
فكثيرا ما تختزل الأصوات الحركات فتمهّد لها أو تتوّجها أو تختزلها لتختزل قلق البطل وسعيه الدائم نحو نشوة الوجود.
الحوار الباطنيّ:
وهو أسلوب لا تختصّ به الرواية الذهنيّة فحسب بل يحتل أيضا في الرواية الواقعيّة موقعا يشرّعه صوت الراوي العليم إذ أنه لا يغيب عن نصّ الشحاذّ ما يمهدّ للحوار الباطني بمقدمّات سرديّة” وقال عمر لنفسه لماذا أتعب نفسي في مناقشة أمور لا تهمنيّ؟” أو يؤطّره في سياق سرديّ يصورّه الراوي” وترددّ الشعر في وعيه بوضوح عجيب” تأكيدا على سلطة الراوي وتنزيلا للنصّ في إطار قصصيّ، غير أنّ الرواية التي لا تخلو من الحوار الباطني المكشوف تبدو قائمة أساسا على الحوار الباطني المباشر أي الذي يرد على لسان الشخصيّة بما هو “اتّصال لقصّة تٌروى بصيغة المتكّلم” فهو أصل النصّ ومداره يحضر إمّا مضمنّا داخل بقيّة صيغ السرد يقتسم معها التركيب فيعطلّ السرد أو يحوّل وجهة الوصف من الخارج إلى الداخل أو يشتتّ الحوار الخارجيّ فيقتحم عليها سيرورتها و انسيابها اقتحاما ليجعل النصّ لا تصويرا للفعل والصورة والقول بل تعبيرا عن الانفعال والإحساس والاضطراب، أو صريحا قائما بذاته مستقل التركيب ينطق عن حركة باطنيّة توازي الحركة الحقيقيّة بل تتجاوزها وتتجاوز انتظام الزمان فتستشرف بحثا عن الذات أو تسترجع تعبيرا عن تمزّقها أو تختزل بالتداعي على النصّ كله “كيف السبيل إلى نشوة الخلق المفقودة” بل إنّ ترتيب صيغ السرد وطغيان الحوار الباطنيّ يبدو انقلابا على بنية الرواية كما ألفها المتقبّل فإذا كان المألوف يحتوي السرد ويؤطرّها فإنّ الطريف أن ينتزع منه الحوار الباطني هذه الوظيفة انتزاعا فيصبح عمق النص ومدار الدلالة فيه يهمش الحركة في المكان ليصوّر حركة داخل الإنسان .
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني