مظاهر النظام في قسم الرحلة من رسالة الغفران
التقديم :
لئن سار ابن القارح على غير منهج في عالم مُقدّر لهُ من الخصائص ما يحاكي به الواقع حينا ويرتفع عنه حينا آخر، فإن المشيئة التي رسمت ملامح ذلك العالم وخططت لمجموع الاحداث فيه تفشي عن حضور قصاص بارع يسير في عالم الكتابة بمنهج واضح قد يدرك بعمق القراءة ويتبين بقرائن سنعمل على رصد بعضها في مستوى بناء قسم الرحلة وفي مستوى مظاهر القص فيها.
البناء:
اذا كان تقسيم رسالة الغفران السبيل المنهجي الممكن للإلمام بحدودها المعرفية فانّ ثنائية الاضطراب والهدوء التي اهتدى اليها الناقد حسين الواد معيارا مناسبا لذلك.
البناء العام لرسالة الغفران : الرد 1 (هدوء)، الرحلة (اضطراب)، الرد 2 (هدوء).
يتبين من هذا التقسيم انّ التفاعل مع قسم الرحلة هو تفاعل مع الجزء المفعم بالاضطراب (الحركة) وهو تفاعل يقتضي التعامل مع المكان في تغيّره باعتباره مقياسا ممكنا لتحديد المفاصل الكبرى لقسم الرحلة.
بناء قسم الرحلة: الجنّة، المحشر، الجنة.
والمتتبع لهذه “الخطّية” في مستوى المكان يلاحظ احتكامها الى ثنائية الهدوء والاضطراب أيضا فهما سمتان تميزان الجنة والمحشر، وعليه يصبح بناء قسم الرحلة كما يلي:
بناء قسم الرحلة: الهدوء، الاضطراب، الهدوء.
فهذا التباين بين مفاصل المكان يجعل التماسك البنيوي حاصلا ويكشف عن وعي المعري بخصائص القص وبقانون التقاطب الثلاثي (هدوء اضطراب هدوء).
امّا ارتداد ابن القارح في قسم المحشر الى كيفية دخوله الجنة، فبالعودة بالأحداث الى بدايتها نتبين انّ المحشر هو السبيل للدخول الى الجنة وعليه فان تكسّر خطّية الزمن والعودة الى الوراء انما هو تصرف قصصي يؤكد التلازم التراتبي بين المحشر والجنة وينبه الى وعي المعري بما ينشئه من قصّ.
انّ القراءة العميقة لقسم الرحلة من رسالة الغفران تفضي الى قرائن كثيرة تثبت منطقيته وانتظامه من ذلك مظاهر القص.
مظاهر القص:
مسار الاحداث في قسم الرحلة :
لئن تنوعت الاحداث في قسم الرحلة فاتسم بعضها بالعجيب واتسم بعضها الاخر بالواقعية فان ذلك التنوع لا يعكس تداخلا او فوضى في القص، بل يكشف عن تعدد مشاغل المعري وتنوع القضايا التي يطرحها. فالتلازم بين تنوع الاحداث وتعدد القضايا انما هو تصرّف قصصي ينمّ عن ضرب من الانتظام يحكم الاحداث وعموما يُدرك الممعن في قسم الرحلة احتكام مسار الاحداث الى ضربين من العلاقات:
العلاقات الانضمامية : الضم : (ضمّك الشيء الى الشيء) فهذا التعريف يتجلى بوضوح في علاقة الاحداث بعضها ببعض مما يجعلنا إزاء نمط الرّوابط الفاقدة لمقولة السببيّة ومحتكمة الى الاعتباطيّة، تلك السّمة التي تنسجم مع مقتضيات النزهة وسير ابن القراح في الجنّة على غير منهج ومن الأمثلة على ترابط الأحداث ترابطا اعتباطيا: “ثمّ انه -ادام الله تمكينه- يخطر له حديث شيء كان يسمى النزهة في الدار الفانية” ، “و يبدو له…ان يصنع مأدبة في الجنان” ، “و يعرض له حيث امرئ القيس في دارة جلجل…”. فهذه الاحداث تتعالق في ما بينها بالانضمام الذي يتمّ في اغلبه بواسطة “واو” العطف او بـ”اذا” الفجائية التي اعتمدها تأكيدا على اعتباطية حركة ابن القارح وهو ما يتّفق مع سيره في الجنّة على غير منهج.
انّ هذا النمط من الروابط بين الاحداث يُؤكّد وعي المعري بمقتضيات القص ووعيه بمتطلّبات “الرحلة”.
العلاقات السببيّة والاستتباعية: قد يُلاحظ في تشكّل الاحداث ارتباطها بمنطلقات عامة اذ نتبيّن مثلا انّ مكوّنات “المنادمة” او احداث “المأدبة” انّما هي تفصيل لما ذُكر في مستهلّ الرحلة حين وصف المكان “الجنة” (ولدان مخلّدون-خمرة-اواني) وهذا التعالق بين هذين الحدثين ومواصفات الجنة انّما هو من قبيل “الاستتباع التصريفي” ويتأكّد هذا النمط من العلاقات حين ايراد المعرّي لقصص عوران قيس، فهو يذكرهم في جملة “نحن عوران قيس” ثم يقع تصريف هذه الجملة الى خمسة أسماء ليُمثّل كل اسم قصّة. فهذا النمط من الأسلوب “الاستتباع التصريفي” يُثبت وعي المعري بما يُنشئه من قص ويُؤكّد احتكام الاحداث الى بناء محكم. وعموما فان العلاقات بين الاحداث قد خضع بعضها “الى العليّة” أي ارتباط الأسباب بالنتائج. يقول ابن القارح: “فكيف لنا بأبي بصير فلا تتم الكلمة، وأبو بصير قد خمّسهم”. فحضور الاعشى في المجلس كان نتيجة رغبة ابن القارح في ذلك علما وانّ هذا الحضور سيكون مؤثّرا في مجلس المنادمة. ويتأكّد هذا النمط من الروابط بين الاحداث حين انصرف ابن القارح الى اهل النار وهو حدث نتج عن عزوف ابن القارح من النار ورفض اهل النار التفاعل مع أسئلة ابن القارح.
فهذه الاحداث او المقطوعات السرديّة تربط في ما بينها ارتباطا يؤكّد سمة الانتظام التي يتميّز بها قسم الرحلة، الا انّ “الاستتباع” قد يتراءى في علاقة الشعر بالأحداث.
إضافة الى هذه الروابط بين الاحداث في قسم الرّحلة والتي تكشف عن وعي المعري بذلك فانّ تنقل ابن القارح باعتباره حدثا يتكرر لم يقع الا مقابل سكون الشخصيات الأخرى امّا اذا امتثل ابن القارح الى السكون فالحركة من حظّ الشخصيات الأخرى.
انّ التفاعل مع الاحداث في قسم الرحلة بقراءة متأنّية يسمح بإثبات مظاهر الانتظام التي تحكم قسم الرحلة.
ملاحظة: عمد النّاقد عبد الوهاب زغدان الى توظيف كلمة “انتقال” ابن القارح في الجنان عوض كلمة “حركة” لما لهذه الكلمة من رغبة في الفعل تبدو مفقودة في شخصية ابن القارح.
الشخصيات و العلاقة بينها:
لم يكن ظهور الشخصيات مفاجئا وانما خضع الى تدرّج، فالاعشى لم يتجلّ الا على اثر ظهور شعره وظهور هاتف مبشّر كما اننا نظفر بعدّة خصائص تجمع بين الشخصيات منها:
-بدا وجود الشخصيات في الجنة “تقديريا”.
-لكل شخص حياتان: حياة في الأرض وحياة في السماء.
-ارتباط وجودهم في العالم العلوي بما قالوه من شعر في الدنيا.
-اهمّية كل شخصيّة في علاقتها بابن القارح حتى اذا تحوّل عنها انتهت من الرحلة.
-خضعت الشخصية ال سؤال “بما غفر لك” او “بما لم يغفر لك”.
-مثّلت كل شخصيّة قصة فغدت الرحلة بما تضمّنته من اشخاص قصصا مضمّنة في قصّة كبيرة “قصّة حلول ابن القارح الجنّة” او هي قصص متسلسلة.
إضافة الى ما يجمع بين الشخصيات فان العلاقات بينها مثّلت هي الأخرى قرائن تثبت مظاهر الانتظام في قسم الرحلة وعليه فإننا نعثر على:
-علاقات تكامل :رضوان + زفر.
-علاقات تباين: الاعشى / النابغة الجعدي.
-علاقات تماثل: عوران قيس…
انّ هذا التنوّع في العلاقات وفي الشخصيات نتيجة حتميّة لطبيعة النّص العجيب.
المكان:
لم يكن الارتقاء من الأرض الى السماء اعتباطيا او مفاجئا وانما خضع الى التدرّج والمنطقيّة، فقد وظّف المعري معجما يحيل على العلو والارتفاع، كما اعتمد اية قرآنية متضمنة تشبيها كي يحاكي بين كلمة ابن القارح “الكلمة الطيبة” و”الشجرة الطيّبة” ثم يعمد الى التسوية بين طرفي التشبيه ليكون ارتفاع ابن القارح الى السماء حدثا ممكنا قياسا لما تتسبب فيه “الكلمة الطيبة” وعموما فان المكان في قسم الرحلة لم يذكر دفعة واحدة وانّما تجزأ مراعاة لتنقل البطل ويمكن النظر الى المكان من مستويين:
-مستوى عمودي (الأرض و السماء) وهو ما يعكس المراوحة بين الموجود والمنشود.
-مستوى افقي: ويهم العالم العلوي (الجنة-المحشر-النار) ويمكن ان نتبين في هذا المكان ملاءمة مكوناته مقتضيات الرحلة فاتساعه مثلا ينسجم مع حدث النزهة امّا كثرة الأشجار وما يتسبب فيه ظلالها من حجب فينسجم مع لقاءات ابن القارح المفاجئة لشخصيات أخرى.
انّ هذا التصرف في المكان يعكس وعي المعري بمتطلبات القص والنص العجيب ويكشف في الان ذاته عن نظام محكم يميز الرحلة.
الزمان:
قد يّمثّل الانتقال من الزّمن الماضي الى الزمن الحاضر أسلوبا فنيا يسمح بانتقال الخطاب من الواقع الى الخيال الاّ ان الزمن في قسم الرحلة وان تنوّع (زمن سرمدي-زمن نسبي نتبيّنه من جمل “فلمّا اقمت في الموقف زهاء شهر او شهرين”) فانه ظل مشدودا الى زمن مخصوص هو زمن التلفظ ” الروايات التي لا يواكب زمنها التلفظي، زمنها الواقعي لا تفهم” فالأحداث في قسم الرحلة تروى في زمن وقوعها “الحاضر” (فيركب نجيبا من نجب الجنة…فيسير. فيهتف هاتف)، “فلا الأفعال تسبق الرواية ولا الرواية تسبق الأفعال”. فهذا التصرف في الاحداث يخضع الى تسلسل زمني فكل ما يحدث وقع لأول مرة اما المستقبل الحدثي فمجهول.
ان هذا التعامل مع الزمن يسهّل الاحداث ويكشف عن انتظام يحكم قسم الرحلة.
الراوي:
لئن تنوّع الراوي في قسم الرحلة فتنوّعت معه زاوية النظر فان ذلك لم يكن الا تصرّفا قصصيا ممكنا نظرا لتوفّر الأسباب المنطقية لذلك التنوع، ويمكن حصر بعضها في :
تنوّع أدوار الراوي:
تتبع ابن القارح وابراز ما يتعرض له.
تفسير الاستعمالات اللغوية.
تنسيق الحوار بين الشخصيات.
اختفاء الرّاوي و تجلّيه:
فالراوي يظهر في الاوصاف وتقديم الأشخاص وتنقلاتهم والتعرف الى ما يخطر لابن القارح والتعاليق اللغوية امّا اختفاؤه فحين تتكلّم الشخصيات.
اذن قد يردّ تنوّع الراوي الى تعدد وظائفه والى ما يقتضيه النص العجيب باعتباره نصا يخترق المألوف اما في الموضوع المطروح واما في مقوّمات القص الموظفة. وعموما يعد التعامل مع الراوي دليلا قصصيّا يؤكّد سمة الانتظام في قسم الرحلة.
إضافة الى بناء قسم الرحلة ومظاهر القص فيها فان حضور نصوص غائبة كالشعر او القرآن… قد ينظر اليها سبيلا لإثراء قسم الرحلة علما وان تلك النصوص قد ترد على لسان الشخصية فتكون جزءا من القص.
كما ان تجلي الانتظام في الرحلة وان كشف عن وعي المعري بخصائص القصّ، فان أهميته لا تكمن الا في ارتباطه بالتداخل الظاهري الذي يميّز قسم الرحلة لتكون إزاء طرافة نص عجيب قوامها النظام والانتظام.
أنجز هذا العمل من قبل التلميذ رائد عبادة – بكالوريا آداب
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني