أتعلم ذاك المساء الكئيب للغاية. الأمر لم يكن سهلا علي، ولن يكون كذلك أبدا. أسير بقربك أواخر الليل نواجه الظلام وحدنا وأيدينا متشابكة ببعض، كأنها تستنجد رحيل أحدنا، ربما كان أنت، لوهلة بدا الأمر وكأن كل شيء قد انتهى شعرت بأنفاسي تتثاقل وتختنق.
وحده عناقك من خفف آلامي. أشعر أن تلك الأبواب التي طرقتها وصولا إليك قد صدت في وجهي، وبقيت وحيدة أواجه العتمة. أنت لا تعلم أن ذاك الجبل لم يعد جميلا مثلما كان، ولم يعد للمطر ونزوله طعما.. حتى غروب الشمس كل مساء من هناك لم يعد مقدسا لي..قد اسود العالم فجأة.
أنام لساعات متأخرة بفعل عامل الشوق الذي يجري بعروق قلبي كل يوم..أستنشق ريحك الموجود بحضني،أغفو على طيفك وأفيق مشتاقة إليك…
لقد كان خبر رحيلك حينها كمرض ينتشر في جسمي يوما بعد يوم…كنت أشعر وكأن أحدهم قد سرق مني تلك الأَمْسِيَّةُ التي رمتني بين أحضانك، وباتت هذه المدينة ضيقة بغيابك… مخيفة ببعدك عني…لقد كان كل شيء جميل في حياتي حتى رحلت أنت فعم الفراغ ثنايا قلبي لأجدني أزور كل تلك الأماكن لوحدي.
تمر علي أمسياتنا مملة دون احتضان يداك لأطراف أصابعي. أتأمل ضوء المدينة من هناك، أراقب غروب الشمس بمفردي. أجوب تلك الأزقة دون خطواتك، وبدونك تكره الطرقات المشي! لم أعد أتحسس دفء يَدَيَّ في جيوب معطفك الشتوي. أعانق وحدتي دون قبلتك تلك التي تطبع على جبيني كلما هممت بالبكاء.
أجلس قرب ذلك العجوز الذي يشاركني فيك لحظاتي في أواخر الليل في الحديقة، ثم أراقب تلك القطة التي تحوم حولنا لتدفئ أرواحها السبعة بدفء قصة عشقنا. أمضي بخطوات ثابتة في تلك الشوارع البائسة إلى أن أصبت بنزلة برد. أشعر بالبرد في كل مكان، كيف لا وكنت أنت معطفي وملجئي الوحيد؟
أتذكرت ذاك المساء، كنا حينها في طريقنا الى هناك. كنت ترافقني كالظل في تلك الطرقات الوعرة حينئذ اتفقنا على كذبة الحب هاته.
اتفقنا ألا ترى غيري وألا أرى سواك. أنا أحبك كحب اليتيم لقبر والدته، وأنت تحبني كحبي للجبل.
أنا أشتاق إليك في كل صباح، وأنت تزور قلبي في كل مساء. فلِمَ تركتني الوحيدة التي تشتاق… الوحيدة التي تزور ذكرياتنا هناك..؟! ثم ماذا عن أولئك الغرباء الذين نصادفهم في طريقنا…هل سيشتاقون لخطواتنا وضحكاتنا تلك، أم أن الكل سيمضي دون التفات؟ بالله عليك من سيقطف تلك الورود البنفسجية
أو الزهرية كما تسميها أنت، ليهديها لي، ثم يتفنن في تزيين عبوس وجهي بأجمل ابتسامة بفعلته تلك؟ ومن سيكون دواء لي وشفاء لكل نوبات مرضي؟
-ألم يقولوا إن الأشياء في البداية أجمل، إذا فلنبقى في نقطة البداية لا بعد ولا فراق.
لطالما كنت خائفة من البداية، خائفة أن أخسر هذه الحرب، خائفة من الحب الذي أعيشه معك اليوم لتقتلني بالبعد غذا!! فمنذ الوهلة الأولى التي اقتحمت فيه أنفاسك جفون صدري، وأنا في حالة رعب من فقدانك، لأجدني اليوم أستنشق رائحتك التي تأتي بها رياح الخريف لتحرك في داخلي الحنين إليك.
لقد حدث ما خشيت، وحصل ما تمنيته ألا يحصل، بالرغم أنك قلت لي لا تخافي فلا مجال للغياب بيننا، فماذا عساي أن أفعل بكل تلك الأشياء وأنت لست هنا؟ ماذا أفعل بهذه الحياة التي أعطتني كل شيء وفي المقابل أخذتك مني؟ ثم ماذا عن تفاصيلك الزرقاء التي تسللت بأوردة دمي، وعن الشعور الذي يعتريني حين أراك. ألن أنعم به مرة أخرى؟
يا حبيبي إن كنت تقرأ الآن دعني أخبرك أنني على وشك الموت حزنا و شوقا إليك منذ مغادرتك.
أصلي للرحمان كل ليلة بانتظام عسى أن يعيد شيئا منك إلي. أبوح إليه في كل سجدة خبايا نفسي. أطرق للحظات ثم تنهدت أنفاسي: يا الله نصفي لا يزال مفقودا فاكملني به. دعني أخبرك بأني اشتقت إلى أيامنا تلك، حين كنت تهاتفني لساعات طوال الليل. كنت ترفع السماعة فتغوص في نوم عميق، لأشعر بأنفاسك تنساب في جوفي كسلسبيل عذب. أخذت أفكر حينها كيف تبث بداخلي كل هذا الشعور من الأدرينالين وأنت هناك سابح في أعماق النوم؟
لم أبصر الحياة إلا عندما قلت لي لأول مرة « أحبك » حينها كنت قريبا مني كنبضة في قلبي، أما الآن…الآن لم تعد الحياة مغرية ومسلية بعدما صرت أنت من نصيب الغياب لا من نصيبي.
رحيلك عني يشبه رحيل الضياء عن قمره لكن أعدك يا عزيزي أنني بغيابك لن أحب غيرك سأكون قديسة من أجلك، ويكفيني أن أعيش حبك على أمل لقائك يوما ما، فربما ستروم الأقدار وسيكون اللقاء إن قدر البقاء.
صدقا اشتقت إليك، وشوقي يحاكي شوق الطير لطلق سبيله…
خديجة بن داود-جامعة السلطان مولاي سليمان