…حركة بطيئة، صوت عقارب الساعة الكلاسيكية، دبيب نمل السكر، قطرات مياه المطر المتساقطة من الثقب الموجود في سقف هذا المنزل، شجار بين جرذان ذات أصول امريكية على قطعة خبز لم تعد صالحة حتى للرمي في سلة المهملات الموجودة على بعد عشرون متر على يمين المنزل …هذا أول ما رأت عيناي مع دخولي
لمنزل قيل لي أنه أكثر الأماكن إلهاما و أكثرها إستفزازا لروح المبدع .. لكن النظرة الأولى توحي بأشياء أشد عمقا من الإبداع، المكان لا يحيل على شيء سوى الظلمة و السواد و العزلة و البؤس
ربما الموت أيضا، فهذه التشققات القطرية على الجدران تأكيد على مدى تحمل هذا المنزل لعدد مهول من المعارك الدامية التي كان مسرحا
لها. فلازالت بعض الأشلاء التي تقطر دما مرمية في أرجاء غرفه بعضها يعود لأناس تملّكتهم قلوبهم و غرست فيهم رماح الغريزة فكان هذا المنزل شاهدا على نهايتهم . و
على أحد الكراسي الملكية الفارهة توجد جمجمة قد إختفت أو » أخفيت « ملامح وجهها لكن يبدو و أن صاحبها قد أصابه غرور مماثل لغرور الفارس الذي أسند ثقته التامة لخيله
التي قادته الى الهلاك، هو الآخر خصّ عقله بالسلطة المطلقة التي تخول له أخذ قرارات دون العودة للقلب أو للجسد أو للآخر مهما كانت هذه القرارات مفصلية … فظن نفسه
ملكًا و الجواري على يمينه و على شماله و هو جالس في مقعده الملكي بينما كانت أفكاره تهاجر رأسه تاركةً مكانها للعناكب التي سارعت في نسج شباكها حتى قاده عقله المتسلط
إلى الهلاك و إلى النهاية إلى الأبد … لم أواصل النظر فقد كان الأمر صعبا لا فقط لظلمة المكان لكن لبشاعة المشهد فلم تكن لي القدرة على الحملقة في أفكار قد أعدمت و
هي تقطر دما و أخرى قد نكِّل بها لضعفها و بساطتها .. لكن و مع وصولي إلى مخرج المنزل توقف لحظة عندي الزمن و داهمني سؤال سريع » كيف نجوت ؟ أم أنك لم تنجو بعد ؟ »
فهمس في أذني صوت و هو يقول » لم تخرج من هنا بعد إذن أنت لم تنجو بعد !! » رهبة و خوف و رجة و صدمة لا مثيل لها فأنا لوحدي و ذلك الصوت الذي همس لي
و الظلمة و الهدوء … أليس هذا هو المزيج الأكثر رعبا ؟ »
قف عندك أو واصل المسير، ألتفت لتكتشف أو حافظ على هدوءك ، عقلك أم قلبك، الحجة أم الغريزة، ….
هنا علمت مالذي جرى مع تلك الجثث المرمية في الداخل فقد وضعوا في نفس الوضعية التي أنا عليها الآن، صحيح أن حالتي ليست أفضل منهم فنحن في نفس المكان و ربما نلقى نفس المصير فأنا و كما هُمِسَ لي » لم أنجو بعد » لكن لازالت يابسة الحياة في مرمى عيناي و على مقربة مني …
بقلم: مسعود العامري -المعهد العالي للعلوم الإنسانية بمدنين