ضاقت بنا الدنيا و ما رحبت – بقلم: وائل الغيضاوي

ضاقت بنا الدنيا و ما رحبت، اللحم يكسو تقاسيم وجهي والضحكة العريضة تبرز اسنانا لم تتسخ منذ يومين، معدة بائسة خاوية، لباس رث وبشرة مسودة ،شعر كثير طويل ولحية كثة مهملة..

من يتفهّم ما يحرق نفسي و يفتت الآمال في أنحائها، تصرخ عروقي وتتقطع اوصالي .. تلك الكتلة الهلامية في راسي إنتفضت وما تركت في الجسم سكينة، تأجّجت وغلت ابعادها،ماء فوق كاز، ضجيج ونار تكاد تذيب زواياه، صخب وعويل جوارح، جروح وتأوهات في كل وريد.. دمار وسقوط، تعب يؤرق نفسي وجسدي ..هذا العالم الداخلي متناه الكبر، كبير كفكرة وصغير كمجرة.. لا تستطيع الحوار مع العالم الخارجي و في داخلك عالم مهدوم! كبّلت الاهواء، قصّت السواعد، وبترت النّواجد،ضيّقت الحدود ولا جميل يذكر، ضعفت الهمة وعزفت النفس،دخلت الغرفة، جسد منهك، زاوية جميلة،سوداء وجذابة..

ذبلت الأعين، ثقلت شفاهي واحتضنت كل واحدة الاخرى.. شهيق ثقيل يتبعه زفير طويل. جلست كالعادة ..التفكير ثم التفكير ثم التفكير، صوت اضراسي تضغط على جيرانها وتدقها عنفا …يد تنمّلت و ساق تخدّرت و روح ظاعت بين أخذ و شد ، بين لماذا و هل يا ترى؟ متى و كيف ؟هل رأيتم سكّيرا يتعاطى الحب جرعاة ؟ هل رأيتم من ينتشي بالحب و تغيب عنه الدنيا ؟ تغيب عنه لكثرة ذكر حبيبه ؟ هل رأيتم أناسا تستمتع بتعذيب انفسها وتتلذذ ! ضغينة و شوق ،سببٌ و مبرّر ، أهواء و حقيقة .. حتى النور مظلم .. انظر الى يميني .

أعقاب سجائر ،مخدرات ،نبيذ وخمرة ..هروبي الوحيد.. ملجئي الذي زادني سوءا و رافقني معه قسور في القلب و ضيق في الصدر ..لقد مر الكثير من الوقت و انا فارّ من نفسي الي اللاشيئ..ان التفكير يثقل كاهلي..جثة في زاوية ،جثة خاوية،جثة هاوية .. انها هي !! كالعادة ! هيستيريا يوم السبت ،كم هي وفية لا تفراقني ابدا ،ثم ماذا ؟ فجأة برزت عيناي! احمرّتا !ارتجفت اسناني و شرعت تعزف سنفونية هلاك آتية لامحالة !هذه لم تكن المعهودة !!! أمسكت شعري بكلتا يداي ! صياح كالعادة ، صرخات تذبح حنجرتي و تنخر قلبي !!.

ما لهذا الماء ينزل بكثافة من عيني ..ما لهذه القهقات المتاوترة تتعالى في هذا النسق التصاعديّ !!مالِ أضرب بساقي الخزانة و ألطم بيد المرآة !! دم يا إلاهي! اهٍ ما اروعه ..أحمر قانٍ و خاثر ! جذاب و لذيذ ..صوت إنبعاثه من يدي و التطامه بالأرض يدغدغ أذني و يطرب سريرتي ! مالِ هذه العروق ترشقني بدمي الذي ممدتهم به مني ؟مالِ لا أحيا و لا أموت يا إلاهي!مالِ أتخبط في موضعي هذا و لا أكف عن النحيب و البكاء … إنه لشيئ مفرح ،ظننتني ان عروقي جفت منذ فترة …انه يرن ! انه حقا يرن ،شرعت أجري الى الشاحن لم أجد الهاتف ..انه حتما في مكان ما ! نعم لقد رميته في الحديقة خلفنا ،نزعت قميصي و شددت به إصاباتي ..نزلت السلم مسرعا ، آه اني اسقط و أتدحرج لأجد نفسي أشد المقبض و أحاول النهوض، نعم نجحت في ذلك ،فتحته و تتبّعت الرنين لأرى من المتصل ! نعم وجدة الهاتف اللعين ! يال الفرحة هل يا ترى ؟ و لكن هيهات يا حبيبي ، هيهات مِن من اشقاه الله …انه المنبه … يال الفرحة .لا جدوى ، همم ..نفس عميق، وضعت الهاتف في جيبي و عدت الي غرفتي تاركا طريقي ملطخة بالدماء .. يال الفرحى إني أقطر دما و قد امتص القميص ربع دمي و ما عاد يستوعب اكثر! فتحت باب الغرفة و اتكأت عليه بعدما أغلقته ، ما هذا اني ارا الشبّاك في الارض و الارضية على فراشي .. مال اترنح هكذا ! اني اهوي، اهوي الي القاع! القاع الذي قمت منه ذات يوم محملا بالأمل و الحب ، مالِ لا اقع بين أحظانك ؟لم يطرحني ارضا طيلة الحياة جرح و لا ندبُ. و قد نجحتِ انت في ذلك و احسنت .. احسست بدفئ طفيف بين خليط الدم و الدموع ،انها بركة لطيفة ، دعوني افترش دمي و احتظن احلامي ، دعوني اشكو الى ربي ،هل تظنه يغفر لك هذه السقطة ! دعوني اسرح بين ذكرياتي ..دعوني اغيب بين طيّات خيالي و ذاكرة العباد .. اقيموا عليّا صلاتي و قول لها قتلت نفسا و مالله ناسِ
نعمة ما تنبأ المتنبي حيث قال :
لا تَعْذُلِ المُشْتَاقَ في أشْواقِهِ حتى يَكونَ حَشاكَ في أحْشائِهِ
إنّ القَتيلَ مُضَرَّجاً بدُمُوعِهِ
مِثْلُ القَتيلِ مُضَرَّجاً بدِمائِهِ
وَالعِشْقُ كالمَعشُوقِ يَعذُبُ
قُرْبُهُ للمُبْتَلَى وَيَنَالُ مِنْ حَوْبَائِهِ.

بقلم: وائل الغيضاوي – معهد الدراسات التجارية العليا بسوسة