شرح نص فتى عنده خير الثّواب و شرّه- أبو تمام – الحماسة – بكالوريا آداب
الموضوع:
التّقابل بين صورة القائد العربيّ المنتصر و القائد الرّوميّ المنهزم
المقاطع
يمكن تقسيم النّصّ إلى مقطعين حسب معيار: المضمون
– من البداية —- ب 6: إبراز قيم القائد العربيّ و تمجيد بطولته
– البقيّة: مظاهر هزيمة القائد الرّوميّ و مقارنة صفاته المرذولة بصفات الفتى المحمودة
التحليل:
المقطع الأوّل
استهلّ الشّاعر نصّه بكلمة نكرة تدلّ على الإطلاق و الشّهرة و الانتشار زمانا و مكانا، و قد اضطلعت بوظيفة خبر لمبتدأ محذوف تقديره » هو « . و كأنّ النّصّ سيكون تعدادا لخصال هذا الغائب – الحاضر.
و قد أنابت هذه الكلمة – الصّفة ( فتى ) عن الموصوف ( الشيباني ) و كأنّها بهذا المعنى أصبحت مُلازمة له يُشارُ بها إليه.
إنّها صفة الفتوّة التّي تفتح لنا هذا النّصّ على التّراث الشعريّ العربيّ الذّي احتفى بهذه الصّفة و جعلها قطبا تدُور في محيطه معظمُ القيم التّي تُحدّد نموذج الرّجل البطل الذّي يستطيع مغالبة الأعداء و القدر.
و هي معنى شعريّ تتقاطع فيه السّماتُ الحربيّة و السّماتُ الأخلاقيّة، ففي الحربيّ تكمن الشّجاعة و الإقدام و سرعة الفتك و في الأخلاقيّ نجد الكرم و الحلم و الشّهامة و المروءة.
تتسرّب إذن في البيت الأوّل نصوصٌ سابقة تُجذّر انتماءه إلى تلك الثّقافة العربيّة الإسلاميّة التّي كانت تبحثُ عن نموذج البطل القادر على الوقوف بنديّة أمام الأعادي. فطرفة بن العبد يُعلنُ ولادته من جديد في هذين البيتين بمعلّقته التّي قال فيها:
إذا القوم قالوا من فتى؟ *** خلت أنّني عُنيتُ فلم أكسل و لم أتبلّد
( … )
أنا الفتى الضّرب الذّي تعرفونه *** خشاش كرأس الحية المتوقد
و عنترة بن شدّاد يظهر مُجدّدا في ثنايا هذا النّصّ مُثبتا فتوّته و مُعلنا انتصاره على الموت بفضلها:
فَتًى يَخُوضُ غِمَارَ الحرْبِ مُبْتَسِماً *** وَيَنْثَنِي وَسِنَانُ الرُّمْحِ مُخْتَضِبُ
النّصّ بهذا المعنى ارتحال لنصوص شعريّة عابرة و دليل على أنّ القول الشّعريّ لا يأتي من فراغ، بل هو تجاوز للآنيّ و استدعاء لما كان.
كما أنّ هذا الانفتاح على الذّاكرة النصيّة القديمة ظاهرة بارزة تسِم أغلب نصوص الحماسة، و كأنّ فعل التّحميس يستوجب بداهة استحضار تلك الأمجاد التّي أسّست تاريخ هذه الأمّة.
إنّ هذا الفتى النّموذج الذّي يُوحّد في مستوى القول الشّعريّ بين الشّيباني و طرفة و عنترة فتى عابر للزّمان، إذ نراهُ يجمع في البيت الأوّل بين السّمات الحربيّة ( صدر البيت حربيّ ) و الصّفات الأخلاقيّة ( عجز البيت أخلاقيّ ) كما نراه يحملُ الصّفة و نقيضها، و يظهر ذلك في استعمال الطّباق ( خير – شرّ ) ( ملح – عذب ) فهو خيّر و شرّير في الوقت نفسه. إلاّ أنّ هذه الازدواجيّة لا تعني نُقصا أو عيبا في هذا البطل النّموذجي بل هي مصدر قوّة و عدل، فالخير موجّه لمن يستحقّه حبّا و حلما و كرما و الشرّ يكون لمن يستحقّه أيضا كرها و شدّة و بطشا.
و قد وظّف الشّاعر مركّبين نعتيين للدّلالة على مغالاته ( مبالغته ) في مشاعره في حالتي الخير و الشرّ ( الإباء الملح / الكرم العذب ) و كأنّ هذا الفتى المفارق الذّي لا يُوجد لهُ مثيل و لا نظير يُجسّد من جديد ذلك العُرف الذّي كان سائدا في المجتمع الجاهلي ( العين بالعين و السنّ بالسنّ ) ليتعمّق هذا المعنى في البيت الثّاني الذّي تأسّس على حواريّة طريفة بين بيت لعنترة بن شدّاد و بيت أبي تمّام، فعنترة الفارس الصّنديد في معلّقته المشهورة بعد أن حارَب العدُوّ ببسالة منقطعة النّظير قدّم فيها فرسه قُربانا لهذا النّصر المظفّر نرى أنّ ما خفّف عنه لوعة الفراق ذياعُ صيته و رهبة العدوّ منه بمجرّد رؤيته أو سماع خبره:
و لقد شفى نفسي و أذهب سقمها *** قيلُ الفوارس ويْك عنْترَ أقدم
هذا البيت يتكرّر صداهُ في بيت أبي تمّام، فالممدوح الذّي اختزن معاني الفتوّة من سيادة و شجاعة و بطش و كرم و خلق و إباء و رفعة أصبح ذائع الصّيت في صولاته و جولاته و انتصاراته المتكرّرة و قد أكّد المعجم الحربي الكثيف هذا المعنى ( كتائب – رعب… ). و هو ما جعل مجرّد سماع أخبار مسير جيشه يُثيرُ الرّعب و الخوف و الجزع في الأعداء. و كأنّ النّصر يتحقّق قبل خوض المعركة في الواقع: إنّه نصر نفسيّ بالدّرجة الأولى.
لقد رسم لنا البيتان الأوّلان صورة هذا القائد المظفّر الذّي تحلّى بسمات الفتوّة و الرّفعة و السّيادة، فكان مبادرا إلى القتال غير خائف من اُقتحام » حومة الوغى » معتمدا على فعل انتصاراته الماضية في قلوب الأعداء.
و قد أحسن أبو تمّام توظيف تلك البطولات التّي خطّها الممدوح بمداد من دمّ و بهمّة لا تلين في بيان أثرها في نفس العدوّ: قائدا و جيشا و مكانا
لقد اضطلعت الأفعال المسندة إلى القائدين: العربيّ و الرّوميّ في هذه القصّة الحربيّة بإخراج صورتين متناقضتين لا رابط بينهما إلاّ هذا التّلاقي الحتمي بين قطبي ثنائيّة النّصر و الهزيمة.
إذ تبدو صورة القائد الرّوميّ مقابلة لصورة القائد العربيّ، فالإقدام و الجرأة تحوّلا إلى نقيضهما، ذلك أنّ اندفاع جيش المسلمين قد قابله تراجع من قبل جيش المشركين بعد أن فعل الذّعر فعله و تمكّن الرّعبُ من العدوّ. و هو ما يُفسّر تقديم المفعول فيه للزّمان ( لمّا رأى… ) على النّواة الإسناديّة ( تولّى ) فالتّراجع حصل دون قتال، و كأنّ رايات جيش المسلمين كانت كافية لشلّ قُدرة جيش الرّومان على الفعل. إنّنا أمام حرب تنتصر فيها إرادة الممدوح قبل أن يخوض الصّراع، و كأنّ هذه الإرادة تتلبّس معنى الفاعليّة و تستحوذ عليها فلا تترك للأعادي إلاّ خيارا واحدا يتساوق مع معنى المفعوليّة ( الفرار ). و هنا يرتقي الشّاعرُ بهذه الحرب إلى مصاف المقدّس، فهي حربٌ من أجل الدّين و القيم و هي حربٌ بين الحقّ و الباطل ففيها تنتصرُ راياتُ » لا إله إلاّ الله » على رايات الصّليبِ.
هذا التّراجع من قبل القائد الرّوميّ و جُنده سيستغلّه الشّاعر لاستحضار عالم الغيب إلى هذا النّصّ الشّعريّ، فكأنّ الله قد ألقى الرُّعب في قُلُوب هؤلاء المُشركين تأييدا للحقّ و إنكارا للباطل.
و يتعمّق هذا المعنى عند تحليلنا لمكوّنات الصّور الشّعريّة اللاّحقة، فالاستعارة التّي ظهرت في عدم تقصير الموت في تتبّع القائد المهزوم و جيشه، و التّشبيه الذّي يظهرُ في تشبيه سعي الرّدى وراء العدوّ بسعي العاشق الولهان وراء حبّهِ يُؤكّدان وقوف قضاء الله و قدره إلى جانب جيش المسلمين و كأنّ عزرائيل قابض الأرواح قد نزل إلى ميدان المعركة يُقاتل إلى جانب جيش المسلمين في استدعاء واضح لرمزيّة معركة بدر التّي خاضها الرّسول ضدّ المشركين.
هذا الدّعم الإلهيّ سيعصفُ بجيش العدوّ و سيُشتّت شمله و سيُضعفُ عزيمته بل إنّه سيشُلّ حركته و يذهب بعقله في مشهد يستدعي فيه النّصّ الشّعريّ رمزيّة يوم الحشر.
إنّ هذا التّصوير يعكس براعة الشّاعر في إتيان ما هو غريب و مستطرف، فصورة الموت في ملاحقته للعدوّ نرى أبا تمّام قد جعلها تتماهى مع صورة العاشق المتحرّق شوقا للقاء الحبيب ليس لمبادلته العاطفة و إنّما لإهلاكه. إنّنا أمام نوع من التّوليد السّببي الذّي يحوّل فيه الشّاعر قوانين الطّبيعة و يُعيد صياغة المفاهيم.
و يتأكّد هذا المعنى في تتبّع تلك الصّور المسندة إلى تلك الأماكن الروميّة التّي عدّدها الشّاعرُ، فقد انهارت فيها قوى سكّانها قبل أن تحدث المعركة في الواقع: إنّه بلاء كبير و يومٌ عسيرٌ ألمّ ببلاد الرّوم قاطبة.
فهذه البلاد و هي تستمعُ إلى صيحة الفاتحين كانت كالنّاقة التّي تضمّ أطرافها فزعا و استعدادا للهروب أو في لحظة ولادة تُعاني آلام المخاض، و هو تصوير طريف تأسّس على ابتكار تقارب دلاليّ بين بلاد الرّوم و النّاقة في نوع من التخييل الغريب و غير المألوف.
كما يُمكن أن نذهب في تأويل البيت الخامس إلى تصوّر آخر يتقاطع مع ما قلناه سابقا، فتلك الصّيحة التّي تذكّرنا بصيحة يوم الحشر أنتجت شعريّا صورة غريبة بدا فيها المكان كائنا حيّا أصيب بصدمة جعلت أحشاءه تتصَارعُ بسبب الخوف و الهلع .
إنّ حركة هذه الأحشاء التّي تطلب الاستفراغ تُدخل النّصّ الشّعريّ إلى حيّز الرّمز، فالمكان الذّي كان في علاقة ملكيّة مع الرّوم ( بلاد الرّوم: مركّب إضافي يُفيد الملكيّة ) نراهُ يعملُ على التخلّص من هذه العلاقة بطريقة ذاتيّة تظهرُ في هذه الحركة التلقائيّة التّي تُصيبُ الجسم عندما يُصيبه سوء هضم أو بطريقة تشاركيّة تستدعي طرفا خارجيّا يعضد تلك الرّغبة الدّاخليّة ( و هو ما نهض به الممدوح ) و هنا يستحضر الشّاعرُ رمزيّة المطر ( الماء ): المطر يضطلع بوظيفة التّطهير عن طريق جرف كلّ تلك الأدران التّي تسكن المكان. و كأنّ الشّعر هنا يستدعي التّاريخ بقدسيّته في تجربة طوفان نوح الذّي أغرق المشركين و حرّر الأرض من المفسدين.
إنّ هذا الطّرح يُؤكّد لنا أنّ ذكر المكان في الحماسة لا تكمن قيمته فقط في ذلك البعد المرجعيّ الذّي يُجذّرُ انتماء الأحداث إلى الواقع و لكن في ما يُحدثه من وظيفة جماليّة تجعلُ المكان فضاء خصبا لإعادة تشكيل ما هو واقعيّ في صور شعريّة طريفة تفاجئ القارئ و تُربك أفق انتظاره و تزيدُ في مُتعته. و بهذا يتمّ الانزياح من التأريخي التّسجيلي إلى الفنّي الإبداعي.
المقطع الثّاني
يُواصلُ الشّاعرُ رواية الوقائع كأنّه يعيشها لحظة بلحظة حين يروي الأفعال في صيغة الماضي و كأنّه يُريد أن يُوهم المُتلقّي بأنّ ما يُقالُ هو من وقائع التّاريخ و أنّه عين الحقيقة و منتهاها. و لكنّه كان في الحقيقة يُنشئ واقعا آخر موازيا: إنّه واقع النّصّ الشّعريّ في انفلاته من المعطى المباشر و انفتاحه على الفعل الجمالي المتجسّد في طرائق القول.
لقد كانت الأفعال المسندة إلى القائد الرّوميّ المهزوم في مستوى اختيارها عنوان براعة فنيّة منقطة النّظير، فقد انتقى الشّاعر أفعالا ناقصة في أغلبها ( غدا – مضى – جفا ) و كأنّ نقصان الفعل يتساوق مع نقصان الشخصيّة المسند إليها. و يتدعّم ذلك بتلك الصّفات السّلبيّة التّي سيّجت القائد المهزوم ( خائف – يستنجد الكتب – تلفحه نار الكرب – مدبر – يُسيء الظنّ بنفسه ) و بتوسّل سجلاّت قوليّة ذات مدلول سلبيّ، كمعجم الخوف ( خائف – يستنجد – مُذعن – الكرب) و معجم الألم ( أنّ – تلفح )
لقد أمعن الشّاعرُ في رسم صورة هذا القائد المهزوم نفسيّا و ماديّا فقد استولى عليه الخوف و الجزع و انهارت أسيجة المقاومة لديه فلم يبق له إلاّ التذلّل و الإذعان و الخضوع، فعوّضت الكتب ( الرّسائل ) السّيف للخلاص.
إلاّ أنّ هذا لم يُثن الممدوح عن مواصلة مهمّته المقدّسة، فالتّطهير يجبُ أن يكون شاملا لخلاص الأرض و نُصرة الدّين و إعلاء الخلافة و هنا تتجلّى هذه المفارقة بين القائدين في أبلغ صورها: صورة الأسد الضّرغام الذّي لا يتراجعُ أبدا على ما عزم عليه و صورة الكلب في حركة ذيله المذلّة و المستكينة.
هذا التّقابل بين القائدين ( في القيم و في البطولات الحربيّة ) سيجعل النّصّ الشّعريّ يُقرّ باُستحالة التّلاقي بينهما. و إن كان ذلك في موقف الخضوع و الاستسلام، ذلك أنّه قد حكم بالتشرّد على القائد الرّوميّ بعد أن عجز عن التّأثير في الممدوح
لقد أمعن الشّاعرُ في إذلال هذا القائد المهزوم، فهو في هُرُوبه يُضاهي الكلبَ المتشرّد الذّي لم يبق له إلاّ العدو مذعورا من تعقّب جيش المسلمين. و هنا وظّف الشّاعرُ الاستعارة ( نار الكرب ) للدّلالة على هذه المصائب و الشّدائد التّي ألمّت بهذا القائد، و دلّ تركيبُ الحصر ( ما… إلاّ ) على استحالة الهروب من هذا القدر المتضخّم ( الشّدائد و المصائب ).
قدرٌ عمّق مأساة الذّات و أنمى ذلك الشّعور الدّاخليّ باللّوم و العتاب.
إنّ هذه الصّورة التّي اُبتناها النّصّ الشّعريّ للقائد المهزوم فيها رفع من قيمة ذاك القائد العربيّ المنتصر الذّي أذلّ الملوك و القادة و أخضع لمشيئته من كان يظنّ نفسه مجبولا على النّصر
فصورة الممدوح ترتفع كلّما انخفضت صورة المهجوّ، و كأنّ النّصّ الشّعريّ بهذا المعنى يتحوّل إلى ميدان قتال تُختبَرُ فيه معادن الرّجال. فنكون أمام مشهدين متقابلين يتحوّلان إلى نوع من التّصادم بين صدور الأبيات و أعجازها، فيُسند للمدوح الصّدر و للعدوّ العجز، كما يتكثّفُ إيقاع المعجم الحربي و أجراس حروفه القويّة المزلزلة ( الحروف الصفيرية و الحلقية و المفخّمة + ظاهرة التّضعيف ) و حركة الرفع في رويّ الأبيات. و تجتمع كلّ هذه الظّواهر في عنوان الأسد الضّرغام الذّي يُلخّصُ المعيار الحربيّ للفتوّة بعد أن أبرز النّصّ بجلاء معيارها الأخلاقيّ.
» فتوّة » احتاجتها الأمّة لحماية الأرض و العرض و رفع راية الإسلام عاليا فقد أرجع الممدوح للإسلام إشعاعه بعد أن تجرّأ عليه المفسدون.
النّصّ بهذا
المعنى تأسيس لصورة هذا البطل المنشود الذّي أرجع للعروبة مكانتها و للإسلام
إشعاعه، فاُستحقّ أن يُخلّده الشّعر قائدا يرتقي إلى مصاف الأسطورة. و كأنّ
الحماسة بحث عن هذا » المخلّص » الذّي تسري في عروقه مآثر أبطال عظام
أنجتهم هذه الأمّة أو هي استنهاض لرجال صدئت سيوفهم و تحجّرت قلوبهم و ضمرت
نخوتهم.
المصدر: تونس
التربوية