اصلاح تطبيق في الحماسة: شرح نص حماسي – بكالوريا آداب

اصلاح تطبيق في الحماسة: شرح نص حماسي – بكالوريا آداب 

للحصول على المنهجية اضغط هنا

للحصول على نص التطبيق إضغط هنا

قصيدة الحرب من مقومات الشعر العربي نقلت وقائع الغزوات ودونت أيام العرب في الجاهلية وعبرت عن نزعاتهم وقيمهم وتحولت بعد الإسلام الى قصيدة جهادية ثم تلونت باصباغ الصراعات المذهبية والحزبية ومن أبزر الذين اهتموا بشعر الحماسة المتنبي شاعر سيف الدولة… الذي تعود اليه هذه المدحية الميمية المقدمة للتحليل وهي جزء من قصيدة مطولة بحرها البسيط اقتطفت من ديوان الشاعر في الصفحات 81 – 84 عن شرح للبرقوقي. (تقديم مادي).

قالها للتذكير بفرادته فارسا في البيان وفارسا في الميدان منافسا في ذلك لولي نعمته ونموذجه الاوفى. (تقديم معنوي / الموضوع) فماهي خصائص الإيقاع والصورة واللغة في هذه المدحية الفخرية؟ وماهي المعاني البطولية والحماسية التي عبر عنها الشاعر مدحا وفخرا؟ وهل يبدو اجتماع بطلي حماسة في قصيدة فخر وعتاب مثريا للصور القيمية في شعر الحماسة قديما؟

ان المتتبع للنص تستوقفه بنية تأسست على مقطعين وذلك لاعتمادها على نظام الضمائر حيث نجد مقطعا اول جمع بين العتاب والمدح وامتد من البداية حتى البيت الخامس ومقطع افتخر فيه الشاعر بالفروسية والشعرية وهيمن عليه صوت الانا ويشمل بقية القصيدة.

تحليل القسم الأول: مدح وعتاب سيف الدولة:

أقام المتنبي مقطع المدح والعتاب مقطعا شعريا توفرت فيه أغلب مقومات الشعرية من إيقاع وتحسين لغوي وتجميل فني حيث اعتنى بالجانب الايقاعي الخارجي والداخلي فقد ركب بحر البسيط بإيقاعاته الثقيلة الشديدة الحادة المناسبة للأغراض الرصينة ومنها موضوع الحماسة، وتخير له رويا ميميا مضموما في صوته الانفجاري القوي والقصد من ذلك موافقة الإيقاع المقام والوقار الذي ميز الممدوح سيف الدولة الحمداني وليكون التكامل بين شدة اللوم والعتاب من جهة قوتها وينقل حدة المعاناة الذاتية من جهة حدتها ولعله بذلك كله قد يكون خالقا لتعبير جمالي قي خلقه لإيقاع نفسي كلما ضغط عليه الشاعر اسمعنا صوت المودع ينتحب بعد طول تجربة فنية وسياسية مثمرة. ومن علامات خصوبة هذه التجربة مع سيف الدولة الاعتناء بتجويد الايقاعات الداخلية في رد الصدور على الاعجاز في البيتين الأول والرابع وفي ترديد أصوات الصفير « أحسن السيوف – هزم – خصام » وفي حسن اختيار الحروف اللينة ذات الرجع النفسي « يا أعدل » وهو ما ساعد على خلق نغمية داخلية جمعت بين لطف العتاب ومرارة الاستعداد لمفارقة ولي النعمة وصديق الغربة سيف الدولة.

وهو ما يؤكد شدة التعلق وترسخ المحبة بين الشاعر والأمير فقد آمن المتنبي بسيف الدولة نموذجا إنسانيا ورسخ ذلك في شعره فاختار من أساليب اللغة ما يشعر بهذه العظمة كالتأكيد « قد زرته » « قد نظرته » والمفاضلة في أفعال التفضيل « أحسن » « أعدل » وتنوع الضمائر هو « أنت » وبذلك انكشفت صورة الممدوح السابق بطلا سياسيا ونموذجا إنسانيا تحرص الذات على ملازمته فلا تظفر منه بعناية حقيقية تتظلم لديه منه « فأنت الخصم والحكم » حتى تدفع هذا الممدوح الى الاعتذار او تدفع السامع الى تلمس العذر لشاعر ملأ الدنيا وشغل الناس في بلاط سيف الدولة في عين المتنبي حتى لحظة فراقه نموذجا فاضلا فهو في السلم ذاك الكريم المعطاء « زرته والسيوف مغمدة » وهو في الحرب ذاك الشجاع البطل الفارس المقدام « نظرته والسيوف دم ».

 وباجتماع المقابلة والكناية تنكشف صورة مثالية للكريم على الأصدقاء والكريم بالفتك على الأعداء وذلك ما يجعل سيف الدولة متفردا في السياسة وفي قيادة الجيش وفي الشجاعة وخوض الحروب لكن الاستفهام الانكاري والنداء « يا أعدل الناس إلا في معاملتي » يجعلان من إشعاع هذه الفرادة تتقلص بتناسي القرباء وإهمال أشدهم تعلقا.

وهكذا يذكر الشاعر ممدوحه بدوره في نحت هذا النموذج ويعاتبه على نسيان ما بينهما من فضل بسبب « الوشاية » ولكن رغم الداء والاعداء فان صورة سيف الدولة في خيال الشاعر بلغت حد الاكتمال وجمعت الفضائل والشمائل حتى أمسي أحسن من الحسن وبذلك لا الممدوح فارسا محاربا وسيفا قاطعا يغمد فيكون الكرم والعدل ويرفع فيتحقق المجد والاشعاع إلا أن هذا السيف به حيف لا يراعي حق الأصدقاء منه حتى صار هو الخصم والحكم.

إنه الأمير القائد لدولة الامارة الحمدانية العربية يخرجه المتنبي في صورة حماسية اسطورية إلا أن الحيف والاحساس بجفاء الأصدقاء أطلق العنان للتشكي مما جعل البطولة تسلب من صاحب الامارة لتهدى الى أمير العبارة وتلك هي قصائد المتنبي ترفع من تشاء متى تشاء.

تحليل المقطع الثاني:

فيستوي المطلع الثاني فخرا بالذات في مجالي الشعرية والفروسية ويقيم المتنبي حول ذاته جملة من معاني التميز والفرادة ناسجا صورة فنية مكتملة الوسائل حتى انه أنسانا الآخر الممدوح لحظة استحضار ضمير المتكلم « الأنا » واعتماد الاستعارة التي قربته من الليث والتشبيه الذي جعل شعره أقرب إلى إعجاز المسيح: « أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي – وأسمعت كلماتي من به صمم »

انه الشعر السحر الحلال في زمن المتنبي يبني للذات قصرا من الصفات ويهديها بحرا من أحلى الكلمات وكلما تقدمنا في النص ازدادت صورة الذات تضخما وازداد المتنبي تفننا فهو الساحر لسامعيه المحير الساخر من خصومه المتأبط شرا المكشر عن أنيابه في مواجهة الأعداء.

ولم يجعل الشاعر الصورة على هذه القسوة والشدة الا ليثبت بها مكانته أميرا على الشعر والشعراء في زمانه حتى يؤكد من وراء ذلك قيمة ذاته العلية أمام الاخر الخصم. إلاأن سيف الدولة لم يكن من الشعراء حتى تثيره مفاخرة المتنبي بشعريته التي ملأ بها الدنيا وشغل الناس لذلك نقل الشاعر مجال الفخر إلى فضاء أكثر حماسة هو نفس مجالسيف الدولة أي ساحة الكر والفر والوغى التي لاح فيها الشاعر فارسا محاربا ماهرا فتحول من السكون الى الحركة والتموج جاعلا من سيفيه مشهدا ممطرا برقه السيف ورعده الطعن وسحبه الجماجم ومطره الدماء والغاية هي التذكير بالفروسية بطريقة حماسية متباهية بكسب المعارك التي خاضها الشاعر الفارع مع ممدوحه بعيدا عن التملق وعن ثنائية الشعر والسعر لان المتنبي قصد البلاط داعما لمشروع إمارة يكتمل فيها الادب والحرب وتتعايش في ظلها سلطة السيف وسلطة القيم.

ولما لم يتحقق الحلم المنشود بشكل مثالي مع سيف الدولة فقد ظل الشاعر متشبثا بمشروعه ينسبه إلى نفسه فرادة في مشهد خاتم تخير له وسائل اللغة والايقاع وترديد أصداء الطعن في بناء البيت « الخيل، الليل، البيداء، السيف، الرمح، القيم » أدوات وتقنيات تدور حول الشمس ذاتها « تعرفني » وبذلك نقل المتنبي صورة فريدة لذات متفردة متمردة متجاوزة لغيرها بسنانها ولسانها.

هكذا تعددت في المقطع الثاني الصور الشعرية المبرزة لفرادة الذات في فخرها الحماسي وقد انتقى لها الشاعر أكثر أساليب الإيقاع والبلاغة تأثيرا ليقيم حول الذات كونا شعريا جامعا مانعا يقربه من البطل الملحمي ويجعله يتاخم الأسطوري.

ما يمكن ان نخلص إليه إثر تحليل هذه القصيدة هو أنها كانت محل تنازع عبر مقاطعها وصورها وشاهدها من قبل بطل من الفرسان يحكم الإمارة وبطل من الشعراء يتحكمفي العبارة وقد جمعهما المتنبي للتعالي بالذات الى حد التفرد مقابل التقليص من اشعاع سيف الدولة البطل الفعلي لحماسة المتنبي وقد توسل في ذلك بوسائط شعرية أبزرها الحكمة مرددا جملة من القيم الإنسانية الخالدة كالعزة والشرف والمجد إلى جانب أكثر المعاني الحماسية تعبيرا عن البطولة والفتك والبطش والفروسية.

لكن هل كان بالإمكان الحديث عن مملكة الشعر بطولة أنا المتنبي لولا بطولة سيف الدولة بانتصاراته الملهمة وهو ما يؤكد قيمة المرحلة السيفية وفضلها على شعرية المتنبي خاصة في أزمنة القلق والأرق والاغتراب وبذلك لا يمكن الحديث عن شعر ملأ الدنيا وشغل الناس كذاك الذي ولد في بلاط سيف الدولة لذلك لم يستطع المتنبي برغم إحساسه بناهية الرحلة أن يسقط تلك الصورة النموذجية للأمير الحمداني مثلما سيفعل ذلك مع كافور الاخشيدي وهو ما يؤكد متانة العلاقة وقوة الصداقة بين الشاعر والأمير.

لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه القصيدة من أكثر قصائد المتنبي تعبيرا عن تميز الذات برغم مرارة المناسبة كما أنها لاحت الاقدر على صناعة المعنى وتشكل الصور وترديد القيم النبيلة كما ترتئيها الامرة الحمدانية بالمشرق.

أفيكون ابن هانئ متنبي المغرب مرددا لأصداء الذات في الحماسة أم لأصداء المذهب الشيعي في عالم الشعر؟

المصدر: الأستاذ عز الدين الجنحاني – مفاتيح النجاح.