الخصائص الفنية للاقصوصة
الأقصوصة هي أقصر من القصة القصيرة محبوكةُ بكل حنكة أدبية، لها سحرُ خاص ولها كُتّاب متميزون في فنها… تقتصر على شرح حكم أو أمثال أو طرف أو فكر روائي يستنتج منه إنتاج أفلام قصيرة جداً مدتها الزمنية لا تتعدي الـ 10 دقائق، على أن يكون هذا الحدث يحدث في زمان ومكان واحد ولا ينتقل إلى أمكنه أو ازمنه أخرى!
والأقصوصة هي ما نمر به من أحلام اليقظه وما تجول به أفكارنا
ونسرده في طابع قصصي مشوق لأفكارنا، وقد نختار له الجانب الحزين، أو الجانب السعيد .
فما هي الأقصوصة؟ وما أسس بنائها؟ وماهي الأدوات التي تزيد من حيويتها؟
الأقصوصة هي لون أدبي يصور جانبًا من الحياة كالحدث أو الشخصية، وقد لا يعنى فيها كاتبها بالتفاصيل، ولا يلتزم ببداية ونهاية. وقد تدور حول مشهد أو حالة نفسية أو لمحة محددة، ويمكن– لقصرها أن تقرأ في جلسة واحدة خلال فترة قصيرة.
أسس بناء الأقصوصة:
وحدة الحدث
ويقصد بها، أن يسأل قارئ الأقصوصة نفسه سؤالاً واحدًا، ويجيب إجابة
وافية بأقل عدد من الكلمات (ماذا فهمت مما قرأت؟)
وهذا يستلزم وحدة أخرى وهي وحدة الفكرة التي بنى عليه الكاتب أقصوصته.
وكما قال أحد النقاد: « أن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة ».
التركيز والتكثيف
بناء عليه فلا مجال للاستطرادات في الأقصوصة، ونقصد بالاستطرادات الأحداث الجانبية، مع العلم بأن هذه الأحداث لابد في حال توفرها في الأقصوصة أن تخدم الحدث الأول فيها، ذلك أن قوة الحدث الرئيس لها من القوة ما يجعلها تمسك بكل خيوط القصة.
التشويق
أبرز ما يساعد على توفر عنصر التكثيف والتركيز في الأقصوصة،
أن يعمد الكاتب إلى التشويق، فكل شيء في الأقصوصة ملتهب وسريع:
اللغة، العاطفة، الفكرة، ويبدأ التشويق منذ الجملة الأولى التي بالضرورة أن تنقل القارئ سريعًا إلى جو الأقصوصة وشعور الكاتب خلال إنشائها،
ويستمر التشويق حتى الجملة الختامية والتي تترك في القارئ شعورًا مبهمًا، بأساليب متعددة، نحو ترك إجابات أسئلة أثارتها الأقصوصة ليجيب عليها القارئ، أو أن تجعل القارئ يطرح هو أسئلة عن أفكار جديدة تراسلت على وعيه…
وأهم أدوات التشويق في الأدب عامة – بصرف النظر عن نوع الفن الأدبي – هو اللغة…
اللغة
الغة في الأقصوصة أشبه بالألغاز والرموز الخفية التي تسمح لذهن القارئ أن يرسم ما خفي بين سطورها، هذا المقصود بوصف لغة الأقصوصة بأنها (لغة موحية)، فهي تعتمد على الرمز أو الرمزية.
الرمز أو الرمزية
والرمز يحتاج إلى تناول مفصل، ذلك أن استخدامه يتوقف على حرية اختيار القاص، فهناك كاتب يصور لنا حالة حقيقية وهذا وحده مقصده،
وهناك كاتب آخر يعمد إلى أحداث قريبة ليصل إلى أفكار أعمق .
فمثلا قد يصف لنا الكاتب لحظة الذروة في شارع عربي ما:
فيصف حرارة الشمس، إشارة المرور الحمراء، ازدحام السيارات توترالأعصاب تعطيل الأعمال بفعل الفوضى أحلام اليقظة أو خطط المستقبل التي نرسمها خلال هذا الانتظار….
تدور الاقصوصة الواقعية عادة في فلك الفن والابداع سبيلا للخروج من المباشرة النقدية في معالجة الواقع الاجتماعي. فهي على هذا النحو إبداع وإمتاع قبل أن تكون إبلاغا أو إقناعا بموقف الكاتب من قضايا الواقع.. فما أوجه تميز الخصائص الفنية في الاقصوصة الواقعية؟
إن الاقصوصة بما هي نص سردي بامتياز تقوم على بنية حدثية تتراوح بين التدرج من العام إلى الخاص شأن أقصوصة » نبوت الخفير » أو تنهض على البنية الدائرية كما هو الحال في أقصوصة « صادق » التي تبدأ بالتازم وتنغلق عليه أو أقصوصة « في شاطئ حمام الانف » حيث تنطلق من القطار وتؤوب إليه لاحقا.
كما أن كتاب الاقصوصة قد احتفلوا بالسرد بما هو مكون أساسي للقص فجعلوه في الغالب سردا خطيا تتابعيا ينطلق من لحظة الانطلاق المعلومة إلى لحظة النهاية المرسومة فالسارد على لسان علي الدوعاجي ينطلق في رحلة على متن القطار ثم يصل إلى الشاطئ ليعود من حيث انطلق دون استباق أو استرجاع وهو ما تميزت به الاقصوصة في مرحلة البدايات.
أما الحوار فقد تفنن الكتاب في استعماله فمنهم من جعله ثنائيا او جماعيا حين يقتضي مقام القص ذلك ومنهم من جعله باطنيا كما هو الحال في أقصوصة « صادق » حيث يغور الراوي في باطن الشخصية كاشفا عن عزمها على الانتحار أو في نص الدوعاجي الذي نطق بهواجس السارد خلال رحلته فكانت الرؤية الغالبة هي الرؤية من خلف حيث يبدو الراوي عليما بباطن الشخصيات القصصية عادة.
وحين ننظر في الوصف نجده متنوع الحضور فهو وصف خارجي يرصد التحول في المكان والزمان والشخصيات وهو وصف داخلي يكشف عن أحلام الغلام الاحدب او مخاوف صادق، كما يتردد الوصف بين الجاد والساخر ، فقد نزع الوصف عند محمود تيمور إلى تصوير الغلام إلى درجة الشقفة عليه مرة وصور السباق بين الدودة والحذاء فكان ذلك مدعاة للسخرة والإضحاك مرة أخرى، ولعل الدوعاجي قد استغرق المنزع الهزلي في الوصف فكان مغرقا في التصوير الكاريكاتوري.
إن الاقصوصة بذلك إما انها قد سلكت مسلك الواقعية النقدية أو الواقعية الرمزية او الواقعيةالساخرة فكانت ممتعة مشوقة، وقد تجلى التشويق في عنصر المفاجاة الذي يحيل عليه حدث مباغتة الشرطي للغلام خلال نومه او مفاجاة المجرم بأن الباب الذي كان يحاول فتحه خلال عشرين سنة قد كان مفتوحا.
من هنا يمكن ان نستخلص بعض مقومات الاقصوصة بما هي شكل أدجبي مباين للرواية إذ تنهض على وحدة الاثر والانطباع واتساق التصميم فتستقيم على التركيوز والتكثيف حدثا وحديثا وشخصيات وزمانا ومكانا فلا إطالة ولاتفصيل، بل نهاية مفاجئة يعدّ لها من البداية حتى إذا اكتملت تحقق منتهى الامتاع والإبداع.
وإن الناظر إلى أركان القص في سياق الاقصوصة الواقعية سيستخلص أن المكان واقعي يدور في سياق عربي صميم فشارع السلسبيل بمصر وشاطئ حمام الانف بتونس وقد يكون رمزيا كما الشأن في حكاية الباب فالزنزانة من محض الخيال، أما الزمن فهو واقعي إذ تدور الاحداث خلال القرن العشرين في النصف الاول منه ، والاحداث كذلك لاتخلو من مرجعية الواقع العربي سواء كان ذلك إحالة على تونس او مصر او لبنان.
إن الفن في الاقصوصة الواقعية هو المقصود في المقام الاول لكنه لايخلو من رسالة النقد والابلاغ التي تنكشف من خلال القضايا التي استهدفها الكتاب في مختلف اعمالهم الإبداعية.
الاقصوصة الخصائص الفنية للاقصوصة اهم مميزات الاقصوصة خصاءص الاقصوصة خصائص الأقصوصة خصائص الاقصوصة مميزات الأقصوصة مميزات الاقصوصة
للقصة القصيرة عناصر هامة تتضافر وتتشابك لتخرج في النهاية هذه التركيبة الإبداعية الإنسانية، ولا نزعم أن هناك من يمكنه أن يضع « أسسًا » للفن؛ حيث يميل الفن إلى التنافر مع التأطير ومحاولة الاحتواء، لكننا نحاول مجرد الوقوف على أهم عناصر وتراكيب فن القصة القصيرة، الذي يضفي مزيدًا من الجمال على تكوينها.
انطلق « أدجار ألان بو » في تعريفه القصة القصيرة من وحدة الانطباع، ومن أنها تُقرأ في جلسة واحدة.
ورأى « سومرست موم » أنها قطعة من الخيال، وركز « فورستر » على الحكاية، واعتمد « موزلي » على عدد الكلمات.
ويرى « شكري عياد » أنها تسرد أحداثاً وقعت حسب تتابعها الزمني مع وجود العلية.
وإذا نحن أمعنا النظر قليلاً في كل هذه التعريفات؛ فإننا سنجد كلاً منها يستند إلى واحدة أو أكثر من خصائص القصة القصيرة؛ ليستنتج منها تعريفاً شاملاً..
فوحدة الانطباع أو القصر المعبر عنه بعدد الكلمات أو بالقراءة في جلسةٍ واحدة، أو الحكي أو الشاعرية كلها مميزات لا تخلو منها القصة القصيرة.
فإذا كان لا بد للتعريف من أن يتأسس على الخصائص؛ فالأجدر أن يكون جامعًا؛ لأن وحدة الانطباع في حد ذاتها مسألة نسبية، قد لا تختص بها القصة القصيرة وحدها؛ فهي أثر تتركه النادرة والنكتة والخاطرة والقصيدة الشعرية، ولِم لا تتركه الرواية أيضاً في ذهن قارئ يستوعب النص، ويتمكن من تحريكه في رحابة ذهنية طيعة؟
وعدد الكلمات قضية جزئية بالقياس إلى البنية الفنية، وقد نصادف أعمالاً في حجم القصة القصيرة من حيث عدد الألفاظ، وربما تنسب إلى الرواية أسبق من القصة.
لا شك أن التركيز والتكثيف يمكنان من القبض على لحظة حياتية عابرة، ولا يسمحان بتسرب الجزئيات والتفاصيل، ويحتم هذا الموقف على الكاتب أن يستغني عن كل ما يمكنه الاستغناء عنه من الألفاظ والعبارات، وكل ما من شأنه أن يثقل النسيج القصصي، ويبدو حشوًا يرهل النص، ويضعف أثره الجمالي.
أما كونها قطعة من الخيال؛ فذلك أمر بديهي. إلا أن الأكثر بداهة هو ألا يكون عنصر الخيال خاصية في القصة القصيرة دون غيرها.
إذ الخيال قوام كل عمل أدبي ناجح، وفي غيابه لا معنى للحديث عن أدب.. هكذا يتبين أن الاعتماد على خاصية واحدة لتعريف القصة القصيرة -ولو أن الخاصية أبرز من غيرها- يظل يشوبه النقص ولا يفي بالغرض المنشود. ولعل الباحث المغربي « أحمد المديني « قد شعر بقصور كل واحد من التعريفات السابقة مأخوذة على حدة؛ فقال موفقاً بينها جميعاً:
« وبالإجمال نستطيع القول: إن القصة القصيرة تتناول قطاعا عرضياً من الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفاً تستشف أغوارهما، تاركة أثراً واحداً وانطباعاً محدداً في نفس القارئ، وهذا بنوع من التركيز والاقتصاد في التعبير وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة القصيرة في بنائها العام، والتي تعد فيها الوحدة الفنية شرطاً لا محيد عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان القارئ، كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية ».
والقصة لغة: « أحدوثة شائقة. مروية أو مكتوبة، يقصد بها الإقناع أو الإفادة »، وبهذا المفهوم الدلالي؛ فإن القصة تروي حدثاً بلغة أدبية راقية عن طريق الرواية، أو الكتابة، ويقصد بها الإفادة، أو خلق متعة ما في نفس القارئ عن طريق أسلوبها، وتضافر أحداثها وأجوائها التخييلية والواقعية.
عن الحدث
إن القصة القصيرة لا تحتمل غير حدث واحد، وربما تكتفي بتصوير لحظة شعورية واحدة نتجت من حدث تم بالفعل أو متوقع حدوثه، ولا يدهش القارئ إذا انتهى من القصة، ولم يعثر بها على حدث؛ إذ يمكن أن تكون مجرد صورة أو تشخيص لحالة أو رحلة عابرة في أعماق شخصية، لكن لأن القصة القصيرة -على خلاف الرواية- عادة ما تركز على شخصية واحدة تتخذها محورًا ومنطلقًا، لا بد أن يكون هناك شخصيات أخرى تقدم خدمات درامية لهذه الشخصية، كما تتكشف لنا من خلال هذه التفاعلات والاشتباكات. ولهذا تتضح أهمية الحدث وأهمية أن يكون فعلا قويًا شديد التركيز والسلاسة وشديد التعبير أيضًا عن الحالة النفسية لأبطال العمل؛ لأن القارئ إذا لم يجد هناك حدثًا هامًا وفاعلا فسينصرف عن متابعة العمل؛ إذ إنه فقد الحافز المهم وهو الحدث.. إن الحدث هو ما يمكن أن نعبر عنه في أقل عدد من الكلمات..
والحدث ببساطة يمكننا أن نعرفه من خلال محاولتنا التعبير عن فحوى القصة في أقل عدد ممكن من الكلمات؛ ففي قصة الفاركونيت يمكننا أن نقول: إن الحدث هو: اعتقال رب أسرة، والقلق الذي يسود هذه الأسرة الصغيرة.. أما في بيت من لحم فإننا نستطيع القول بأن الحدث بها هو الرغبات المكبوتة المحتدمة داخل النفس البشرية، أو أن نقول: « ظل رجل ولا ظل حائط »، كما يقول المصريون.. ونختم بمقولة آندروسون إمبرت -الناقد الأرجنتيني- حين يتحدث عن: « وحدة نغم قوية وعدد قليل من الشخصيات، وموقف نترقب حل عقدته بنفاد صبر، ويضع القصاص نهايته فجأة في لحظة حاسمة مفاجئة ».
التكثيف والاختزال
يبدأ بناء القصة القصيرة مع أول كلمة، ومعها يشرع الكاتب في الاتجاه مباشرة نحو هدفه، فإن هذه البداية تحمل الكثير من رؤية العمل وروحه؛ فيجب أن تكون البداية مشوِّقة محفزة للقارئ أن يواصل القراءة ليرى ما هي حكاية هذه القصة.
يجب أن يكون العمل متماسكًا مكثفًا متخلصًا من السرد غير اللازم الذي يصيب العمل بالترهل، وربما كانت مقولة يوسف إدريس خير دليل، عندما قال: « إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة »، ولهذا يجب أن يكون العمل متماسكًا في وحدة عضوية شديدة، وأن يكون محكم البناء، وأن يمسك الكاتب بعناصر الكتابة جيدًا حتى يستطيع أن يفرغ على الورق كل ما يدور بداخله بدقة وصدق ليضمن وصوله إلى القارئ في سهولة وصدق أيضًا؛ ولهذا يجب أن تكون البداية والنهاية والحدث على درجة عالية من التكثيف والتركيز.
لا مجال في القصة القصيرة لأي كلمة لا تخدم الهدف الأساسي للكاتب، وليس معنى ذلك أن الكاتب يكون قد حدد لنفسه هدفًا واحدًا تصب فيه فكرة قصته.. ولا يسعه الخروج منها أبدا، لكن الأمر يتلخص في وحدة الحالة الشعورية عند الكاتب التي تؤدي إلى أن القارئ بعد انتهائه من القصة يصل إلى أن النهاية التي وصل إليها الكاتب لا يوجد في السياق إلا ما يخدمها فقط؛ ف »إدجار آلان بو » يصفها قائلاً: « يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب ». ويمكن أن نلمح هذا التكثيف والاختزال في القصص المعروضة في أروع ما كتب؛ حيث تلاحظ في غالبيتها أنه لا وجود لوصف لا يخدم غرض الكاتب، كما لا توجد شخصيات يمكننا حذفها دون إخلال بالسياق.. وأرقى صور الاختزال والتكثيف هو الاختزال على مستوى اللغة؛ فقدر الإمكان يجرد الكاتب لغته من كل ما لا يخدم غرضه الفني..
الزمان والمكان في القصة القصيرة
في القصة القصيرة يمكن باستخدام أسلوب ودلالة ما أن أوضح كثيرًا من العناصر مثل الزمان والمكان..
فيما يخص الزمان فإن تحديد حقبة تاريخية معينة -بداية القرن التاسع عشر مثلا- كفيلة عند ذكرها في القصة أن تنقل المتلقي إلى عالم آخر، وكفيلة وحدها -إن أراد الكاتب- أن تنتقل بالمتلقي إلى عالم خاص من التعليم الديني والورش والصناعات الصغيرة والهدوء الذي يلف الناس.. والآمال المتواضعة والأحلام البسيطة و…
إذن فالزمان وحده أضاف أبعادًا لا متناهية على القصة، ومثال آخر حينما يتحدث الكاتب عن الثالثة بعد منتصف الليل فإن ذلك ينتقل بالمتلقي إلى الرهبة والخوف والأعمال غير المشروعة، وبائعات الهوى واللصوص، أو المؤمنين وسبحاتهم، أو الأم القلقة على وليدها المريض أو الزوجة القلقة على زوجها الذي تأخر.
أما بخصوص المكان فمن خلال استخدام أدوات القص يمكنني أن أعرف ماهية المكان الذي تدور فيه أحداث القصة؛ فهل هو مكان مغلق، محدود بجدران وسقف، أم مكان مفتوح غير محدود بشيء؟ هل هو على شاطئ البحر أم على ظهر طائرة؟… إلخ؛ ولهذا دور مهم في تهيئة الجو الخاص للتلقي، خاصة إذا كان القاص يمتلك أدوات الوصف بشكل جيد.
والزمان والمكان مرتبطان كثيرا في العمل القصصي؛ ففي المثال الذي أوردناه عن الزمان: الليل، فلا يمكن للمتلقي أن يركز في اتجاه قصة ما لم يعرف أين مكان هذا الزمان: في شارع مظلم، أم في شقة متواضعة، أم في وكر لعصابة؟
وبتطبيق ذلك على قصة الفاركونيت نستطيع أن نقول: إن هذه الجملة الافتتاحية التي تحدد الزمان « هدير السيارة يزعج صمت الليل » استطاعت أن تنقلنا إلى عالم القصة فورا وتدخلنا في أجوائها..
الرمز في القصة القصيرة
يلجأ كاتب القصة لاستخدام الرمز في حالات عديدة، منها مثلا: إذا كانت قصته تدور في فلك الرمزية أو تجنح إلى الفلسفة والغيبيات، لكن الحالات التي يلجأ فيها الكاتب إلى الرمز مضطرًا هي عندما حينما يتصدى الكاتب لنوع من القهر، وخاصة عندما يواجه « بالتابوهات » الثلاثة التي تقف أمام أي كاتب، وهي (السياسية، الدين )، وهناك كتاب كثيرون استطاعوا التعامل بذكاء مع مثل هذه « التابوهات »، وربما كان أكبر مثال على ذلك في تاريخنا الأدبي هو كتاب « كليلة ودمنة » للحكيم « بيدبا »، وهو مجموعة من الحكايات -القصص- تحكي على ألسنة الطير والحيوانات، لكنها في الأساس تقدم نقدًا لمجتمع المؤلف وقتها.
ولما كانت القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية تفاعلا وتأثرًا بغيرها من الأجناس فلقد استفادت بالكثير من أدوات المسرح مثلا كالظلال واللعب بالأضواء، وأمثلة أخرى كثيرة لأهمية استخدام الرمز في القصة القصيرة، لكن الأكثر وضوحًا أن اللجوء للرمز بشكل مفرط يضيع الكثير من جماليات العمل الفني، خاصة لمن هم على أول الطريق الإبداعي.
لكن الأمر المؤكد أن الكاتب الذكي اللماح يستطيع أن يثري عمله إذا اعتمد على الرمز، وتحولت كل مفردات العمل إلى « حمالة أوجه » تحمل وجهًا ظاهرًا للجميع، وآخر أعمق لا يدركه إلا المتذوق الجيد، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: تعدد مستويات النص..
الاقصوصة وفنياتها
ثمّة اتفاق كبير بين دارسي الأقصوصة على ضرورة توافر ثلاث خصائص فنية رئيسية في ايّ عمل حتى نستطيع إن ندعوه بارتياح أقصوصة و هذه الخصائص هي وحدة الانطباع و لحظة الأزمة و اتساق التصميم
تعتبر وحدة الانطباع من خصائص الأقصوصة و أكثرها وضوحا في أذهان كتابها و قرائها على السواء ليس فقط لبساطتها و منطقيتها و لكن أيضا لأنها من أكثر الخصائص تداولا إلى الحد الذي توشك معه أن تكون القاسم المشترك الأعظم في مختلف التعريفات في القواميس و الموسوعات و قد بلور ادقار آلان بو هذا الاصطلاح عام 1842 و اعتبره الخصيصة البنائية للأقصوصة و النتاج الطبيعي لوعي الكاتب لحرفته و مهاراته في توظيف كل عناصر الأقصوصة بخلق هذا الانطباع الواحد، فقصر الأقصوصة لا يسمح بأي حال بالتراخي أو الاستطراد أو تعدد المسارات ويتطلب قدرا كبيرا من التكثيف و التركيز و استئصال أية زائدة أو عبارة مكررة .
ومن هنا فإن وحدة الانطباع لا تعني بالضرورة أن تتجه كل جزئيات الاقصوصة إلى خلق هذا الأثر الواحد بصورة بنائية محكمة فقد تستطيع أن تحققه من خلال تفاعل عدد من العناصر المتنافرة أو تعاقب مجموعة من المفارقات أو جدل العديد من النقائض أو تراكم أشتات مت الذكريات أو نتف التأملات التي تشبه الشظايا المتناثرة التي تبدو لأول وهلة أن لا رابط بينها أو تداخل عدد من أشكال الكتابة القصيرة المختلفة و تفاعلها … إلى غير ذلك من الصيغ البنائية التي يبدو أنها تفتقر إلى البناء التقليدي المحكم و لكنها تخلق انطباعا و أثرا جماليا واحدا.
ولحظة الأزمة هي لحظة الأقصوصة الأثيرة لحظة الكشف و الاكتشاف و لذلك سمي جويس هذه اللحظات بالإشراق و أو الكشوف ّ فغالبا ما يركز كاتب الأقصوصة على شخصية واحدة في مقطع واحد و بدلا من تتبع تطورها فإنه يكشف عنها في لحظة معينة … هذه اللحظة غالبا ما تكون اللحظة التي تنتاب فيها الشخصية بعض التحولات الحاسمة في اتجاهها أو فهمهاّ ».
وليست لحظة الأزمة بالضرورة لحظة قصيرة فقد تستغرق عملية الكشف هذه زمنا طويلا و لا تتطلب أن تعي الشخصية ذاتها حدوث هذا الكشف أو حتى وجوده برغم معايشتها له و لكنّها تستلزم آن يدرك القارئ كلا من التوتر الصاع للازمة و المفارقة التي ينطوي عليها الاكتشاف.
واتساق التصميم هو الخصيصة البنائية التي تقودنا في الواقع إلى دراسة الملامح و العناصر البنائية المختلفة التي ينهض عليها او يتكون منها شكل الأقصوصة من شخصية و حبكة و و حدث وزمن …إلخ
وترتيب أحداث حبكة ما لا يتطلب ن يتوافق هذا الترتيب مع الترتيب الواقع او التسلسل الزمني للأحداث , انما هو يخضع لمنطق الأقصوصة الداخلي إذ يستطيع الكاتب أن ينسق الإحداث في قصة وفق عدد كبير من الطرق و أن يعالج بعضها الآخر بإشارة واهنة أو يهمله تماما إن شاء و من هنا فإن هناك فارقا كبيرا بين القصة و الحبكة لأن القصة التي تنطوي عليها أية أقصوصة هي مجموعة الجزئيات التي صاغتها مرتبة ترتيبا زمنيا أو زمنيا سببيا وفق حدوثها في الواقع أو وفق أي ترتيب آخر يمكن آن نرتبها به.
أما حبكة أية أقصوصة فهي النسق الذي رتبت به أحداث هذه لقصة في هذه الأقصوصة المعينة و هو ترتيب قد يتفق مع ترتيب حدوثها في الواقع او قد يختلف عنه.
غير أن أي ترتيب يجب آن يحتوي على منطق يربط هذه الأحداث بعضها ببعض وفق نسق تحتل فيه هذه الأحداث مقامات مختلفة إذ لا يصح أن تكون جميع الأحداث على درجة واحدة من الأهمية