تمهيد لمحور : الأخلاق الخير والسعادة – بكالوريا – فلسفة

تمهيد:

الأخلاق هي جملة القيم والقواعد التي تنظم العلاقات بين أفراد مجموعة بشرية معينة وهذه القيم يكون مدارها الخير. لكن الفلاسفة اختلفوا في تصورهم للخير ففيما يتمثل الخير؟ هل يتمثل في طلب السعادة أم في الخضوع والامتثال لأوامر الواجب؟

أخلاق الواجب: كانط:

الخير = الواجب.

ما هو معيار الفعل الأخلاقي؟ هل يكون الفعل أخلاقيا بالغاية التي ينشدها (السعادة) أم بامتثاله لصوت الواجب؟ وهل يمكن أن نوحّد بين الخير والسعادة أم أن العادة هي مبدأ اعلي للمخيلة لا يمكن إدراكه؟ ألا يجدر أن تما هي بين الخير والواجب باعتباره المبدأ الأعلى الذي يضمن أخلاقية الفعل الإنساني ويفتحه على الكوني؟

هل الأخلاقي هي قيم نسبية تخضع للخبرة التجريبية للفرد أم هي قوانين كلية ومطلقة يكون مصدرها العقل أو الإرادة الخيّرة؟ (العقل الكلي).يعتبر كانط أن الواجب هو المبدأ العقلي الذي تتأسس على عليه الأخلاق وأن الامتثال له هو الذي يجعل من الفعل الإنساني فعلا أخلاقيا ويرمي كانط من وراء ذلك إلى تخليص الأخلاق من المذاهب الغائية (نظريات اللذة والسعادة والمنفعة) وخاصة أخلاق السعادة لأرسطو التي توحد بين السعادة والخير والتي تحكم على الفعل الأخلاقي بالاستناد إلى آثاره أو نتائجه فهذه المذاهب الأخلاقية قد أهملت عنصر الإلزام أو التكليف وكأن الأخلاق مجرد بحث عن النتائج السارة أو الغايات السعيدة أو الخيرات النافعة. لذلك يرفض كانط أن تكون الأخلاق مرتبطة بمفهوم السعادة كخير أقصى لأن السعادة لا يمكن الإمساك بها وكما أنه قد يتعارض الأفراد في مفهومهم للسعادة فلكل سعادته والسعادة تصبح سعادات لذلك يجب أن تقام الأخلاق في نظر كانط على فكرة الإلزام والواجب يقول كانط: » إن الواجب كلمة سامية وعظيمة » فالواجب هو الشعور بالالتزام تجاه القيم وتجسيد السلوك الخيري وهذه القيم تأخذ شكل القانون الأخلاقي الذي يكون كليا ومطلقا وغير مشروط ويعتبر كانط أن القانون الأخلاقي يكون مصدره العقل. ولكن بما أن الإنسان معرّض الإغراءات الرغبة والأهواء وبإمكانه أن يخضع لسلطتها عوض سلطة العقل رأى بأن هذا القانون يجب أن يأخذ صورة الأمر من الأوامر الأمر الشرطي وهو الذي يخضع فيه الفعل إلى غاية نفعية أو مصلحة ويكون بذلك الفعل لا أخلاقيا. أما الأمر القطعي فهو الذي يخضع فيه الفعل للواجب كواجب بعيد عن المنفعة ويكون بذلك الفعل أخلاقيا.

إن الفعل الذي يصدر على الإرادة الخيرة يطلب الخير لذاته وليس لبلوغ غاية (السعادة أو المنفعة) لكن يبقى بالنسبة لكانط لكي نضمن أن يكون الفعل أخلاقيا وليكون تكون الإرادة غايتها هي ذاتها أي الخير يجب أن تكون حرة لا تخضع لأية سلطة خارجية (خيرات جزئية ومنافع) كما أنها لا تستوحي القانون الأخلاقي من التجارب الأخلاقية السائدة لذلك فإن الأخلاق عند كانط هي أخلاق كونية تعبر عن حرية الفعل فمن يطيع القانون الأخلاقي يطيع إرادته ولا يطيع أشخاصا.

تبقى السعادة عند كانط هي استحقاق أخلاقي أي أن من حق الإنسان أن يأمل في السعادة لكن في الحياة الأخروية وفي محل وشرط تحقيق ذلك هو أن نكون كائنات أخلاقية جديرة بهذه السعادة.

نقد أخلاق الواجب: ساتر ونيتشه

سارتر:

إذا كانت الحرية هي شرط وأساس كل فعل أخلاقي فما هي دلالة الحرية هل هي مجرد مفهوم ميتافيزيقي معطى (الإرادة الخيرة) أم هو ما يقع اكتسابه من خلال تجربة تاريخية للذات تثبت من خلالها استقلاليتها وحريتها في اختيار قيمها بنفسها؟

بأي معنى تكون الأخلاق كونية هل يعود ذلك إلى ارتباطها بمصدر قبلي وكوني (العقل العملي) أم بانفتاح الذات بما هي حرية مسؤولة على ما هو إنساني كوني؟

هل يمكن الملائمة بين الحرية الفردية للذات في وضع قيمها بذاتها وبين ما هو كوني وإنساني؟

تنطلق الفلسفة الوجودية من القطع مع مفهوم الإنسان الماهية للهوض في كل ما يتعلق بإنسان الواقع فالإنسان هو ذلك الكائن الذي يسبق فيه الوجود الماهية لذلك فلا مكان فيه للمقولات المعطاة سواء كان عقلا عارفا أو طبيعة خيرة أو حرية مطلقة فهو مطالب بأن يؤسس لذاته القيم والمبادئ المفرزة آنيا من تفاعله المباشر مع الآخر ومع العام ومن الطبيعي أن تكون الحرية في الفكر الوجودي أول ماهية يكتسبها الإنسان ككائن واعي وإرادي وفاعل بما أنه مطالب بالقطع مع كل موروث ميتافيزيقي أو مجتمعي معطى لينفرد بتأسيسه الذاتي لكيانه.

فالإنسان هو ذات متحررة من كل سلطة ما قبلية ميتافيزيقية ومتعالية وكذلك من كل سلطة إجتماعية وسياسية واقتصادية والحرية بهذا المعنى هي مواجهة لكل أشكال الحتمية الطبيعية والإجتماعية والأخلاقية والإقتصادية والسياسية لذلك ينتهي سارتر إلى أن القيم هي نسبية وفردية وذاتية لكن ألا تتعارض هذه الحرية مع حرية الآخر ؟ ألا يتحول الآخر إلى عائق أمام حرية الذات؟ لذلك أكد سارتر أن الحرية مرتبطة بمفهوم المسؤولية ولتجاوز هذا التوتر بين الذات والآخر يجب أن نفهم الحرية ليس بمعنى أنها معطاة ومطلقة بل هو اختيار مسؤول لا يخص الذات فقط بل ينسحب على الإنسانية جمعاء فالحرية التي يؤسس لها سارتر هي حرية واعية ومسؤولة تنطلق مما هو ذاتي وتنفتح على ما هو كوني وإنساني.

إن القيم تعبر عن إستقلالية الذات وحرية الإرادة في الإختيار وتنظر للحرية بالمعنى الغائي أي أن تكون غايتها الإنسانية.

نيتشه:

يعتبر نيتشه أن الفيلسوف الحق هو الذي يعمل على نقد القيم السائدة وخلق قيمه بنفسه فالأخلاق هي خلق وإبداع حر والفرد هو منبع القيم على نقيض الأخلاق الكانطية التي تعتبر مصدر التشريع هو العقل وأنها تتحدد بصفة قبلية كما يرفض نيتشه الأخلاق التي تتأسس على المجتمع لأنها تقوم على الإتباع بينما ينظر نيتشه إلى الإنسان على أنه كائن الخلق والإبداع.

لذلك يذهب نيتشه إلى أن الفلاسفة والعلماء ليسوا إلا حيوانات مريضة لأنهم ينظّرون لقيم أخلاقية تعارض الجسد والأرض والحياة وهم بذلك تناسوا دوافعهم وتغافلوا عن غرائزهم ورغباتهم وباتوا يطاردونها مكرسين بنونهم وعبقريتهم للبحث عن الحقيقة للتفتيش عن اليقين والموضوعية رغم أنها أصنام تخرج الإنسان عن ذاته وتبعده عن الحياة الواقعية ولهذا انهال بمطرقته ة نفذه على صنم الحقيقة والمطلق والموضوعية وهي قيم سرابية من شأنها أن تقضي على الإنسان.

يدعو نيتشه إلى الإبداع من أجل تحقيق ذاته وتجسيم إرادته وإلى إثراء ذاته باستمرار وإلى تحرير نفسه من الوصاية والمقيسات التي يفرضها المجتمع أو الدين. يقول نيتشه: » ليست هناك جواهر وليست هناك قيم أخلاقية مطلقة وبأن كل ما يمكن العثور عليه هو تأويلات ذاتية للقيم فالأخلاق عند نيتشه هي ذاتية ونسبية والإنسان هو الذي يبدع قيمته بنفسه ولا يخضع للقيم السائدة ».

والإبداع عند نيتشه هو تجسيم لإرادة القوة التي تعبر عن الغرائز وهي متمثلة في غرائز الحياة والجسد وأهمها وأعظمهما هي غزيرة القوة والهيمنة فالقيم التي يؤسس لها نيتشه هي قيم الجسد والحياة والقوة وإرادة القوم هي المشرعة للقيم لأنها هي جوهر الإنسان بينما القيم التي ينظر لها الفلاسفة والعلماء هي قيم مضادة لطبيعة الإنسان

أخلاق السعادة:

تعد أخلاق السعادة عند أرسطو علما عمليا يبحث في أفعال الإنسان من حيث هو إنسان ويهتم بتحديد ما ينبغي عمليه وما ينبغي تجنبه لتنظيم حياة الموجود البشري وتدبيرها على أحسن وجه وقد أوضح أسرطو أن الأخلاق تتأسس على مفهوم السعادة والسعادة عنده مرادفة للخير الأقصى فما المقصود بالخير الأقصى؟ ينحصر عنده الخير الأقصى للإنسان في تأدية وظيفته العاقلة وبلوغ الكمال المعرفي لذلك يجعل أرسطو السعادة رهينة الحكمة وينزهها عن بقية الأغراض الجزئية والنفعية مؤكدا أن الحكمة هي من أسمى الفضائل لأنها تعبر عن فعل نزيه وحر يقوم به العقل دون أن يرمي من وراءه أية منفعة جزئية لذلك تعد السعادة فعلا نفسيا يرتبط بخيرات النفس وتختار السعادة لذاتها وتعتبر كافية بنفسها لإسعاد الحياة دون حاجة لخير آخر بمعنى أن الناس يطلبون الخيرات الأخرى كاللذات والكرامة والسيادة لأجل السعادة في حين لا يطلبون السعادة لشيء آخر.

الأبيقورية: مذهب اللذة:

السعادة هي حالة من التوازن النفسي يحقق فيها الإنسان الطمأنينة والسكينة ويبتعد فيها أكثر ما يمكن عن الألم والاضطراب وقد أقامت الفلسفة القديمة تصورها للأخلاق على مفهوم السعادة بما هي غاية قصوى وإذا كانت السعادة عند أرسطو تأملية عقلية فإن السعادة عند أبيرقو هي سعادة مادية تقوم على ضرب من التوحيد بين الخير واللذة فاللذة تعتبر الخير الأعظم أو الغاية القصوى لمعظم الأفعال البشرية ولكن لا تفهم اللذة بالمعنى السفسطائي الذي يدعو إلى إشباعها بصفة مطلقة لذلك يدعو أبيقور إلى تعديل اللذة لأنها قد تؤدي إلى الألم ويعلي من قيمة اللذات الروحية النبيلة كالصداقة والجمال والحكمة.

مذهب المنفعة: بنتام وج ستيوارت ميل:

يعد مذهب المنفعة إمتدادا لأخلاق السعادة وخاصة لمذهب اللذة المادية ولكن إذا كانت السعادة في الفلسفة القديمة تتميز بنزعتها الفردية فإن مفهوم السعادة في المذهب النفعي اتسم بنزعته الاجتماعية فالمنفعة في نظر بنتام هي المبدأ الأخلاقي الذي يدفع الناس إلى البحث بطريقة مماثلة على أكبر قدر ممكن من اللذة لذلك أصبحت صحابة الفرد منتضمنة في تحقيق المصلحة العامة فالخير في تقديره يساوي ما هو نافع لنا وما هو نافع لنا هو هذا الذي يكون في الوقت نفسه نافع لغيرنا، ولما كان مذهب المنفعة مذهبا تجريبيا فإن الخير يعد في نظرهم شيئا ملموسا ومحسوسا قابلا للقياس لذلك يقيم الأخلاق على ما يسميه بحساب اللذات لذلك فإن الحكمة تنحصر في تنظيم حياتنا بحيث يكون ميزان اللذات والآلام لصالح اللذات على قدر الإمكان ولكن يبقى الأهم في حساب اللذات هو أن تشمل أكبر عدد ممكن من الأفراد.

مذهب الرفاه:

عرفت العصور الحديثة داخل الحضارة الغربية نورة فلسفية ومعرفية وعلمية جعلت الفلسفة تتخذ توجها جديدا يربط بين التقدم المعرفي والتقني للإنسان وبين التقدم الأخلاقي فما المقصود بالتقدم الأخلاقي؟ أصبح التقدم الأخلاقي يفهم على أنه خروج الإنسان من الوحشية والبربرية التي يفتقد فيها المعارف والتقنيات الكفيلة بأن تمكنه من السيطرة على الطبيعة والتحكم فيها فسعادة الإنسان أصبحت تقاس في نظر اولد بنارخ فيتزايد قدرته على الهيمنة عل الطبيعة وتطوير أسلوب حياته والخروج من الحياة القاسية (التي تقوم على مصارعة الطبيعة) إلى حياة الرفاه وتطور المعارف والفنون والآداب فالسعادة تعني ازدياد قدرة المجتمع على تلبية حاجات أفراده المنتمين إليه.

لكن إلى جانب عامل التقدم المعرفي يشترط لتحقيق السعادة لتوفر عامل آخر ليس أقل شأنا وهو العمل السياسي المرتبط بحلول النظام الديمقراطي فالسعادة أصبحت تقترن بمفهوم المساواة أي تمتع الأفراد على قدر المساواة بالرفاه لذلك عُرفت الدول الغربية في حدود السبعينات من القرن الماضي بدول الرفاه.

لكن بالنظر إلى مجتمعاتنا المعاصرة هل يمكن أن نؤكد أن التقدم المعرفي والتقني قد زاد من سعادة الأفراد؟

هل أن الرفاه هو قيمة يتمتع بها فعلا كل الأفراد؟

هل أن هناك توازي بين التقدم المعرفي والمادي وليس التقدم الأخلاقي؟

في ضل ثقافة معولمة تقوم على توظيف قيم الديمقراطية والحرية والسعادة داخل نسق شمولي مغلق لا يحتكم إلا للمطالب الإقتصادية هل يمكن أن نتحدث عن مشروع أخلاقي يجعل من السعادة مطلبا إنسانيا.

هل أن السعادة المرتبطة بنمط الوجود الإستهلاكي للمجتمعات المعاصرة بإمكانه أن يكون نموذجا للحياة السعيدة؟

إن المجتمعات الإستهلاكية اليوم بتلبيتها اللامحودة لكل الحاجات المادية للأفراد تخلق بالموازاة مع ذلك أشكالا جديدة من الإغتراب يفتقد فيها الأفراد للسعادة فقد تراجعت القيم الأخلاقية التي من شأنها أن تعطينا معنى للحياة وتدفعنا للإقبال عليها مقابل هيمنة قيم السوق والقيم الإستهلاكية. فعلى مستوى علاقة الإنسان بذاته يعرف الإنسان اليوم السلبية وتراجع ماسحات الحرية أمام أشكال البرمجة والتوجيه التي يخضع لها أما على مستوى علاقته بالآخر فإن نمط الحياة الإستهلاكية قد عمّق عزلته بما أن هدفه من الحياة قد حُدد في جمع المال من أجل الإستهلاك لذلك عدت السعادة وفق هذا التصور مفهوما مفروضا من قبل المجتمع أو الدولة بحيث يكون مثلا أعلى يفرض على الإنسان من الخارج لذلك يدعو بناروزير إلى التخلي عن نموذج أمثل للسعادة يكون تحقيقه موكول للمجتمع والدولة والبحث على سعادة واقعية وعينية وحاصرة يكون الإنسان هو مانعها عبر الفرح الذي يحققه من خلال أفعاله التي تعبر عن الإنسجام بين العقل والرغبة وعن الإنسجام بين الأنا والآخر وتقوم على التخلي عن السلوك الإستهلاكي نحو الفعل الذي يحقق الكينونة الذي يقوم على جملة من المبادئ.

الخاتمة:

إن السعادة ليست نموذجا جاهزا بل هي السبيل إلى تحقيق حياة سعيدة وبذلك يتجاوز مبحث السعادة الأخلاق التي تبحث في الأسس (عقلية – تجريبية نفعية) إلى الايتيقا التي تبحث في الشروط الفعلية والتاريخية لتحقيقيها.

إن الأخلاق في الفلسفة القديمة ومنذ نشأتها قدمت نفسها على أنها فلسفة السعادة.