المنزع العقلي في الادب العربي القديم – الجاحظ – بكالوريا آداب / العربية – تلخيص – الجزء الثاني
الجزء الأول : اضغط هنا
الجزء الثالث: اضغط هنا
* المنهج العلمي / المنزع العقلي :
من مظاهر المنهج العلمي / العقلي المعتمد :
– اعتماد الشك , الذي يعتبره الجاحظ مجالا من مجالات التعلم , فهو مرحلة يقف فيها الباحث عند مسألة بين الإثبات و الإنكار . فالشك ممهد لطريق البحث إذ يشعر الإنسان في مرحلة الشك بحيرة لا يخرج منها سوي ببلوغ اليقين، لقوله : » فلم يكن يقين حتى كان قبله شك » . وقوله حاثا القارئ على إدراك مواضع الشك : » فاعرف مواضع الشك » ويضيف قائلا في اعتبار الشك علما من العلوم الواجب تلقينها و تعليمها : » تعلم الشك في المشكوك فيه تعلما » .
– إعمال العقل في الأخبار المنقولة، وإن كانت من مختصين كالجزارين، أو القرادين، الحوائين، الصيادين …
– اعتماد أساليب كالتعديد والتوسع فالتفرع و التفصيل ( التوليد : توليد جملة عن جملة و فكرة عن فكرة ) .
– التعويل على التجربة : وهي الاستخبار عن الحقيقة بالبحث في ظاهرة ما من عالم الطبيعة أو الحيوان أو الإنسان أو أي مجال من مجالات المعرفة لاستنباط الحكم أو القاعدة، تطبق على كل ظاهرة.
تنطلق التجربة عند الجاحظ من الملاحظة المباشرة بالعين و هذا ما يسميه » العيان » و هو من أهم مصادر المعرفة لقوله : » وليس يشفيني إلا المعاينة » .
كما يتجلى لنا المنزع العقلي أو المنهج العلمي من خلال الدحض و النقد و التجريح و …
(…)
*الفكر الاعتزالي :
المتأمل في نصوص الجاحظ يلاحظ تأثره بالفكر الاعتزالي في طرق رده على الفرق الأخرى , كما يلحظ ميله للاعتزال في تمجيده للعقل و توسله أداة قيمة في فهم المعارف و تصحيحها , خلافا لأهل السنة .
والمعتزلة فرقة نشأت في العصر الأموي , عرفت بتبجيلها العقل و تقديمه على كل وسائل المعرفة , بل وتقديمه على الشرع إذ توكل لهذه الآلة التي تعصم الإنسان من الخطأ , وتوكل إليه مهمة النظر في النص القرآني و تفسيره و استنباط أحكامه .
نظرت هذه الفرقة في مسألة الخير و الشر، و الجبر و الاختيار … الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
تعتمد هذه الفرقة على علم الكلام الذي يؤمن بحرية العقل في البحث و النظر و التأويل و فهم النص دون قيد أو حاجز. بالإضافة إلى بعض السمات الأخرى التي سردها الجاحظ في حديثه عن المعتزلة اثر رده على النصارى ومنها : التوحيد و نفي الشبهات و الإيمان بكل الرسل و العدل في الحكم.
يقول الجاحظ في هذا السياق : » لولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النحل ( الفرق ) » .
* المنزع التعليمي :
يرى الجاحظ أن كل عمل أدبي كان أو غيره، لكاتبه رسالة من ورائه فأقر برسالة نبيلة هي تقريب العلم إلى القارئ، فنصّب نفسه معلما في كثير من نصوصه، ليهيمن الأسلوب التعليمي التلقيني الذي اتضح من خلال مجموعة من الأساليب منها : التنبيه / الترغيب في قوله : » فالرغبة و الرهبة أصلا كل تدبير …، فاجعلهما مثالك الذي تحتذي عليه، و ركنك الذي تستند إليه، و اعلم أنّك إن أهملت ما وصفت لك عرضت تدبيرك للاختلاط » / الترهيب / التحذير وذلك في : » و احذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان عن الحزم فيمثل لك التّواني في صورة التواكل » .
كما نتبين ذلك من خلال التراكيب المتواترة في نصوصه من ذلك : » أوصيك ايها القارئ المتفهم » و » اعلم أن « ، » إياك أن تسيء الظن » و قوله في مواضع أخرى : » إلا أنك يجب أن تعلم أن … » و » افهم » ، » ألا ترى » و قوله » ألا تعلم » …
وتتواتر مثل هذه التراكيب و الأساليب في ثنايا المدونتان المدروستان مما يعسر حصره فنكتفي بذكر أمثلة و نماذج يستدل بها التلميذ و يوظفها في مواضيعه كشواهد وإن كانت كلمة واحدة مؤدية للغرض مفيدة و معبرة عن المعنى .
* المعارف :
– تنوعت معارف الجاحظ و تعددت، فشملت جل ميادين الحياة تقريبا، إذ خاض في عالم الإنسان بجزئياته من أكل و شرب، كما غاص في بدنه و تطرق إلى شهواته و أعضائه و تصرفاته، دون نسيان لمعاملاته . وكذلك لم يغب عالم الحيوان بأصنافه من حيوانات برية و بحرية وطائرة، فاهتم بطرق عيشها و تكاثرها و تصرفاتها …
من هذه المعارف : ( نحفظها لنستدل بها في المواضيع كشواهد )
+ معارف عن الحيوان :
– حزم فرخ العقاب : يورد هذه المعلومة عن حديث لأعرابي مدار قوله : » كان سنان بن أبي حارثة أحزم من فرخ العقاب » أي أن فرخ العقاب يحزم » يكتف » كي لا يقع من عشه الواقع أعلى الجبل .
– ظمأ الأيل إذا أكلت الحيات : مصدر المعلومة » الزَّبُورْ » و هو كتاب من الكتب المقدسة حيث قال فيه داود عبيه السلام : » شوقي إلى المسيح مثل الأيل إذا أكلت الحيات » .
إذا أكل الأيل حية قطع صلته بالماء , فضل ضمآنا كي لا يمر له سم الحية عبر الماء .
– موت الذباب : عجز الفيل عن قتل الذباب عند الخفقان بأذنه في المقابل تموت الذبابة إذا صفقت الفرس بأحد جفنيها و إذا صاح الحمار .
– فرس الماء : و أكلها للتماسيح , يقدم الجاحظ أطروحة صاحب فرس الماء الذي يؤمن بأكل الفرس للتماسيح، ثم يقدم أطروحة الرافضين الذين يقرون أن الفرس بهيمة من البهائم لا تصطاد، ليختم ذلك بموقفه و استنتاجه الذي يفيد أن فرس الماء من المشترك أي ما يأكل اللحم و الحب .
– السفاد (المني) و مفعوله في الكائنات بأصنافها، من هزال و فساد للحومها …
– فعل الجرذ المخصي في غيره من الجرذان، وبيان الفارق بينه و بين سائر الكائنات التي تخصى . فالجرذ يخالف بقية الكائنات التي إن خصيت ضعفت، أما الجرذ إن خصي صار أقوى الكائنات في الأرض .
– فعل السنور في الفأر و إيراد مقولة زرادشت و الرد عليه : » زعم زرادشت أن الفار من خلق الله و أن السنور من خلق الشيطان … » ثم يقول : » ونحن نجد عيانا أن الذي قلتم به خطأ … »
وتتعدد المعارف لتمتد على سبعة أجزاء من كتاب الحيوان و عددا كبيرا من الرسائل .
+ معارف عن الإنسان :
– دور اللغة ووظيفتها التواصلية .
– الختان عند اليهود و المسلمين و النصارى : المعرفة التي أضافها الجاحظ تتمثل في ختان اليهود لأبنائهم في اليوم الثامن و ذلك لتجنب انتشار البرص .
– فضل الكلام على الصمت « و لم أجد للصمت فضلا على الكلام مما يحتمله القياس » واستدل في ذلك بقول إبراهيم عليه السلام حين جعل من الكلام وسيلة تنجيه من عقاب قومه اثر تدميره لأوثانهم.
وغيرها من المعارف التي جمعها كتاب الحيوان و الرسائل بخصوص الإنسان من أكل و شرب و نكاح و أعضاء و علم …
نخلص إذا إلى أن مجال المعرفة عند الجاحظ الكون بأسره من إنسان و حيوان و جماد . و الوسيلة المعتمدة هي التأمل العقلي و التجربة العلمية لغايات منها الوقوف على عظمة الله في الكون و إثبات وجوده . فالمعرفة عنده هاجس لا يفارقه أبدا فلا ينفك يبحث عن الحقيقة مهما كانت بساطة الموضوع الذي يخوضه .
* الموضوعية و عدمها :
– ما تميز به الجاحظ في مُؤلفيه (الحيوان و الرسائل )، ميله الدائم إلى اتخاذ الموضوعية منهجا في ثنايا نصوصه . فالجاحظ بدا موضوعيا من خلال أسلوبه و لغته، إذ لم نجد ثلبا و لا شتما في نصوصه و إن تهكم أو هاجم بعض خصومه , بل و نهى عن ذلك ونصح الناس بالتثبت و الروية و الإمعان قبل إصدار الحكم . كما بدت الموضوعية جلية في نقده، فالجاحظ لا يدحض أو ينفي فكرة إلا و جاء ببديل منتهجا أسلوبا عقليا بدايته الشك فالمعاينة فالتجربة ثم الاستنتاج اعتمادا على حجج و مواقف . كما نقد الجاحظ العالم و العامي، المفسر و اللغوي، الراوي و المتكلم، البلاط و الرعية، العربي و الأعجمي، والمختصين في علم الإناسة و علم الحيوان، المسلم و النصراني … نقد مواقفهم دون إسقاط ولا تسلط بالرأي أو اتخاذ مواقف، وإن عجز عن تقديم البديل ترك الحكم للقارئ الذي وجدناه حاضرا في نصوصه .
– المآخذ (وتستعمل عادة في النقاش ) : نقيض الموضوعية ( الانطباعية – الذاتية – الذوقية ): نجد الجاحظ أحيانا يفرض مسلمات قد لا يوافقه فيها غيره و يبني عليها نقده بناء محكما فيلزم القارئ بها و يجعلها معرفة لا تجادل . أو إيهام القارئ بوجود محاج له، في حين أنه لا وجود له بل هو وليد عقله. كما ننقد الجاحظ في تمجيده المطلق للعقل و للمعتزلة و اللغة العربية , وفي هذا يحيد عن الموضوعية ليقع في الانطباعية و الذوقية .