الحرية في الفكر الفلسفي: النص في معترك الأسباب – بكالوريا آداب
مفهوم السببية:
السببية في اللغة على المستوى الحقيقي، الحبل، أما على مستوى الاستعارة فهي كل ما يوصل به الى الشيء. أما اصطلاحا فهي تعني الأسباب هي السّنن والقوانين والنظم التي تحكم الكون وهي التي تؤدّي إلى إدراك الكون وبالتاّلي إدراك وجود الله.
فالأسباب هي سلسلة لامتناهية من النظم والقوانين والإنسان لا يستطيع أن يلمّ إلّا بالقريب منه فقط والله وحده له القدرة على الإلمام بسلسلة السّببية من بدايتها إلى نهايتها.
السببية عند الفلاسفة:
ابن رشد:
يرى ابن رشد أنّ أفعال العباد تتّم بتكامل وتوافق بين الإرادة الإنسانية والأسباب على النحو التالي:
فاكتساب الإنسان لأفعاله يتمّ بتوافق الأسباب الخارجيّة التي سخّرها الله في الطّبيعة للإرادة الإنسانيّة. لذلك تعتبر حريّة الإنسان حريّة نسبيّة تتحقّق في إطار المشيئة الإلاهيّة مع زوال الموانع. ولن يكون الإنسان أكثر حريّة إلا من خلال قدرة وعيه لاكتشاف الأسباب والضّرورات أي القوانين التي أودعها الله في الكون. ويمثل هذا الموقف موقفا فلسفيا عقلانيا ينظر إلى الجبر والاختيار نظرة جمع لا تفرقة خلافا للموقف الكلامي الذي ينظر إلى الحريّة إمّا حاضرة مطلقا أو مغيّبة مطلقا.
عند الغزالي:
يؤكّد الغزالي على أنّ الكون يسير وفق نظام محكم ودقيق يسمَّى القضاء والقدر. ويفسّر السّببيّة بأنّها ارتباط الأسباب بالمسبّبات.
الله هو مسبّب الأسباب
أسباب كليّة:
وهي أسباب ثابتة – مستقرّة – لا تتغيّر – لا تزول ← قوانين الكون التي يتأسّس عليها نظام الكون. فالقضاء هو وضع الأسباب.
مسبّبات حادثة:
وهي ما ينشأ عن تلك الأسباب من الكليّة من حوادث عاديّة يوميّة يشهدها الإنسان لحظة بلحظة. فالقدر هو توجيهها نحو مسبّباتها.
مثال: نزول المطر سبب كلّي يتأسّس عليه الكون وقد ينجرّ عنه فيضانات تؤدّي إلى وفاة نفس بشريّة: المطر هي القضاء – السّبب والوفاة هي القدر أي المتسبّب.
ويرى الغزالي أنّ اقتران الأسباب بالمسبّبات ضروريّ لكنّه متولّد عن طبائع الأشياء وإنّما عن مشيئة الله الأزليّة: الفاعل الحقيقي هو الله.
مثال: النّار ليست علّة الاحتراق لكنّ الله يخلق الإحراق عند الإصابة بالنّار
فالأسباب ليست مؤثّرة بذاتها عند الغزالي وبالتّالي لا يمكن الجزم باستمرار النّظام السّببي لأنّ الله هو الذي أودع التّأثير في الأسباب الكونيّة وإذا تعطّل السّبب أزال عنه هذه القوّة المودعة فيه. واستدل الغزالي بمثال إلقاء إبراهيم عليه السّلام في النّار دون أن يحترق وبالتالي أبطل قانون السّببيّة بالمعجزة.
السّببيّة عند علماء الإصلاح الدّيني:
دوافع الاهتمام بالقضاء والقدر في العصر الحديث:
من دوافع الاهتمام بمسألة القضاء والقدر في العصر الحديث هو الدّفاع عن جوهر العقيدة الإسلاميّة وتخليصها من الشّوائب التي ألحقت بها من طرف الغربييّن الذين يحاولون تحقيق تبعيّة المسلمين لهم ماديّا ومعنويّا وتصحيح المفاهيم والتّأكيد على دور الإرادة الإنسانيّة في تحقيق النّهوض الحضاري.
مقالة الأفغاني وعبده في هذه المسألة:
إرادة الإنسان عندهما حلقة من حلقات سلسلة الأسباب التي أودعها الله في الكون وفق حكمته. وقد كان طرح رجال الإصلاح لهذه المسألة كان من منطلق إصلاحي وبدوافع حضاريّة واجتماعية.
التوكّل والأسباب:
التوكّل هو الثّقة بالله والاعتماد عليه، تفويض الأمر إليه، الاستعانة به في كل شيء والتّيقّن بأنّ قضاءه نافذ. والتوكّل لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب بل لا يصحّ إلّا إن اتخذ الإنسان لكّل عمل يريده جميع الأسباب الموصلة إليه لأنّ الله قد ربط الأسباب بالمسبّبات والنّتائج بالمقدّمات. فالإنسان مدعوّ إلى الأخذ بالأسباب بمقتضى فطرته وبمقتضى التّكليف الإلاهي لقوله تعالى: ” وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ” – الأنفال 60. كما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأراد أن يترك ناقته على باب المسجد دون أن يعقلها. فقال له صلى الله عليه وسلّم: “اعقلها وتوكّل”. فالتوكّل لا يتمّ إلا بالأخذ بالأسباب ومتابعة سنن الكون ثمّ الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه وترك النّتائج له.
أنقد وأبني موقف:
كان الرّسول صلى الله عليه وسلّم سيّد المتوكّلين ومع ذلك فقد كان يأخذ لكلّ أمر عدّته ويستعدّ لملاقات أعدائه الاستعداد الكامل ويتّخذ جميع أسباب النّصر وكان يعمل ويسعى للكسب وما كان يترك السّبب الذي جعله الله موصلا إلى الغاية لأنّ ترك الأسباب مجافاة للنّظام الذي وضعه الله في الكون.
التوكّل على الله بهذا المعنى يشعر الإنسان بسكينة في النّفس وطمأنينة في القلب وراحة في البال لقوله صلى الله عليه وسلّم في حديث قدسي:” أنا عند ظنِّ عبدي بي وأما معه حين يذكرني”.
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني