الخصائص الفنية لحماسة المتنبي (الجزء الاول)

الخصائص الفنية لحماسة المتنبي

1. الإيقـاع:
نميّز في استعمال الإيقاع بينه وبين الوزن (البحر والقافية)، إذ الوزن إحدى تجليات الإيقاع، ولكن إيقاعات الأوزان لا تمثل كل تجليات الإيقاع في الكلام. ذلك أن:ـ الوزن نظام إيقاعي ثابت مقنن، أما الإيقاع فنزوع إلى الانتظام والتنظيم دون أن يكون نظاماً ثابتاً جامداً.ـ الوزن نظام مجرد سابق للنص، أما الإيقاع فمرتبط بالكلام ناشئ عن النص ومتكيف به.ـ الوزن عام ومشترك، أو هو إطاري خارجي، أما الإيقاع ففردي موضعي.بهذا المعنى فإن الإيقاع ظاهرة حيوية في الكلام ترفض التقنين، وهو ما يعني أن ما يمكن بحثه أو محاصرته من ظاهرة الإيقاع هو آليات تجليها في الكلام. ولعل ما يمكن تأكيده في ما يتعلق بالإيقاع هو ارتباطه الوثيق بمفهوم الترديد أو التكرار ولكن دون أن يماهيه، فالإيقاع تكرار في منطلقه ولكنه نفي للتكرار في مآله، بما هو كسر للرتابة كي لا يسقط في التشبع ويفقد كل قيمة جمالية. ومن جهة أخرى فالإيقاع ليس مجرد تكرار صوتي بل هو تكرار له بالدلالة أكثر من صلة.

 إنه كما يقول المسعدي «هندسة وبناء» بمعنى أنه يشمل مختلف مظاهر الانتظام والتنظيم في النص، وهو انتظام يكشف عن تنظيم مخصوص للمعنى في النص.ويمكن أن نتوقف في شعر أبي الطيب الحماسي عند بعض مظاهر الإيقاع منها:تكرار الأصوات: يقول المتنبي مصوراً بناء سيف الدولة لقلعة الحدث:بنـاهـا فأعلـى والقنـا تقرع القنـا وموج المنـايـا حولهـا متـلاطميقوم هذا البيت على إيقاع قوي ومميز، وهو ناتج أساسا عن خصائص الحروف والأصوات المستعلمة وعن كيفية توزيعها على مساحة البيت،

إذ نجد:ـ تكرار حروف القاف والراء والعين، وهي أصوات جهورية تحيل إلى محاكاة صوت المعركة وقعقعة السلاح. فكأنك وأنت تسمع هذا البيت تستمع إلى صوت المعركة وهو ما يشحن البيت بإيقاع مميز يعانق الدلالة لتأكيد النفَس الحماسي في القصيدة.ـ انتشار المقاطع الطويلة المنفتحة التي تعبّر عن معنى الإعلاء في البناء.

فإذا كان البيت يؤكد جمع سيف الدولة في فعله بين البناء والحرب، فإن الحروف تعبّر عن هذا المعنى من خلال خصائصها الصوتية (القوة والشدة) ومن خلال توزيعها وخصائصها الكمية (انتشار المقاطع الطويلة).الجناس والتكرار اللفظي: يقول المتنبي مفتخراً:لقد تصبّرتُ حتى لات مصطبر فالآن أُقحِـمُ حتى لات مُقتَحَـميقوم البيت على ترديد لفظي : تصبرت ـ مصطبرأقحم ـ مقتحموهو ترديد يُظهر التقابل الدلالي بين صدر البيت وعجزه،

 أي بين الماضي (لقد تصبّرت) والحاضر الدال على المستقبل (فالآن). فمعنى الصبر الذي عبّر عنه الفعل المزيد (تصبّر) والذي يحمل معنى الكثرة المرتبطة بالمشقة والشدة، هو الذي استدعى تكرار نفس المادة (ص.ب.ر) في (مصطبر) الذي ورد ضمن مفعول يفيد انتهاء الغاية في الزمان (حتى…) فكان ذلك إيذاناً بالتحول الذي عبّر عنه العجز. 

وكان الانتقال إلى الفعل (أقحم) مرتبطاً بهذا الإصرار الذي لا مجال فيه للتردد ليكون الاقتحام والتقدم على قدر الصبر والتصبّر. إضافة إلى أن التكرار يحوّل إصرار الذات على الفعل إلى غنائية تمجّد القوة وتتغنى بالفعل.بهذا المعنى ليس ترديد الأصوات أو الألفاظ مجرد لعب لفظي وإنما هو مظهر من مظاهر تنظيم المعنى وإخراجه في النص.

الموازنة التركيبية: يقول المتنبي في مطلع إحدى مدحياته في سيف الدولة:على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارموتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائمتلعب الموازنة التركيبية بين صدر وعجز كل بيت دوراً أساسياً في تأكيد صيغة الإطلاق في الحكمة، كما ينهض التقديم والتأخير (تأخير الفاعل: العزائم، المكارم) بوظيفة تأكيد المعنى وإظهار دور الإنسان وفعله في تحديد طبيعة النتيجة. فالعزائم (التي احتلت وظيفة الفاعل نحويا) إنما هي ـ دلاليا ـ نتيجة فعل الإنسان ومقدار العزم الذي يبذله في سبيلها

. ومن جهة أخرى فإن الموازنة التركيبية تقوي الإيقاع وتساهم في خلق النفس الحماسي في النص.الترصيع: يقول المتنبي:ونحن في جَذَل والرومُ في وَجَلٍ والبرُّ في شُغُل والبحر في خَجَل يقوم البيت على قافية داخلية تمنح الإيقاع فيه طابعاً مميزاً وتحوِّله إلى تغنٍّ بالنصر في نفس حماسي ظاهر. وهو أمر تؤكده ظواهر إيقاعية أخرى في البيت مثل:ـ التناسب بين الألفاظ وتوزيع التفعيلات، وهو ما يسميه الهادي الطرابلسي بظاهرة الطفو، أي أن تطفو التفعيلة على سطح البيت:ونحن في / جذل / والروم في / وجل والبر في / شغل / والبحر في / وجلمُتَفْعِلـن / فَعِلن / مستفعلـن / فَعِلن مستفعلـن / فَعِلن / مستفعلـن / فَعلنـ المقابلة بين: نحن ≠ الرومجذل ≠ وجلالبر ≠ البحرـ الجناس في : جذل ـ وجل ـ خجل، وهي إضافة إلى ذلك على نفس البنية الصرفية:

 فَعَلٌ.ـ الموازنة التركيبية بين: نحن في جذلالروم في وجلالبر في شغلالبحر في خجليمكن القول إذن أن المتنبي يزرع إيقاعاته الخاصة ضمن إيقاعات الوزن فتعضدها وتقويها، وتُخبِر في الآن نفسه عن حضور المتنبي ذاتاً مبدعةً تروم الفرادة والتميز. كل ذلك في علاقة واضحة بدلالة البيت القائم على مقارنة بين نحن والروم في نفس حماسي واضح يتغنى بالنصر ولا يخفي تشفيه في الأعداء.الإيقاع بهذا المعنى حركة كيانية مرتبطة بالمبدع بقدر ارتباطها بالمتلقي، إذ الإيقاع ليس إلا إيقاعاً في الكلام يُحضر الذات في الخطاب، وإيقاعاً بالمتلقي يخلق بينه وبين النص ألفة تكون مدخلاً للتأثير فيه.

2. الصورة الشعرية:
مثلما يكون الإيقاع علامة على حضور الذات في الخطاب، فإن الصورة أيضاً علامة على حضور الذات في العالم وفعلها في الوجود. فالصورة إعادة تشكيل للعالم وخلق جديد له بالكلمات، من خلال العلاقات الجديدة التي تُوجِدُها الصورة بين الموجودات. الصورة الشعرية إذن ليست مجرد أسلوب محايد يستخدمه مستعمل اللغة للتعبير والوصف، إنها موقف ورؤية. ذلك أن الصورة تشبيها كانت أم استعارة أم كناية أم مجازاً…

 ليست إلا عدولاً وانزياحاً عن الاستعمال المأنوس للغة، فغاية التشبيه مثلاً هي التقريب بين المتباعدات، ولكن من دون هدم ما بينها من الحدود، ذلك أن التشبيه يحافظ على استقلال طرفيه وتمايزهما مهما قرّب بينهما. وقد اعتبر البلاغيون أن الأصل في التشبيه هو تشبيه المجرد بالمحسوس انسجاماً مع مبدأ إخراج الأغمض إلى الأوضح.

لكن نظرة في شعر المتنبي الحماسي تُظهِر استعمال المتنبي للتشبيه استعمالاً مخصوصاً ينأى به عن وظيفته الأساسية (تقريب الصورة)، ففي قصيدة تمر بك الأبطال مثلاً تنبني الصورة على التشبيه، وهي تشبيهات بينها من العلاقات والتشابه ما يشي بأنها اختبار فني مقصود موظف لخدمة غاية أبعد. يقول المتنبي في هذه القصيدة:وقفتَ وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائمتقوم الصورة على تشبيه وقوف سيف الدولة في المعركة بوقوفه في جفن الردى، وهو تشبيه تمثيل (تشبيه صورة بصورة) قام على تشبيه محسوس (وقوف سيف الدولة في المعركة) بمجرد (وقوفه في جفن الردى) الأمر الذي يجعله يخرج عن الضوابط التي حددها البلاغيون للتشبيه، إضافة إلى أن المشبه به قائم على استعارة (الردى له جفن/نائم).

فهذا التشبيه تشبيه مركب ينزع إلى الغموض وليس إلى الوضوح، بمعنى أنه لا ينهض بوظيفة تقريب الصورة، بل إن غايته هي الإيغال في الخيال والمبالغة. فالصورة لا تقوم على تقريب المعنى وإنما تنهض بوظيفة تأثيرية غايتها تأكيد عظمة الممدوح من خلال الغموض والمبالغة. ويمكن قول الأمر نفسه في بقية تشبيهات هذه القصيدة.

إذا كان التشبيه في شعر أبي الطيب الحماسي على هذه الصورة من التركيب، فإن هذا التركيب يكون أظهر في الاستعارة. فنزوع الاستعارة في حماسيات المتنبي إلى المبالغة وقيامها على الغلو والغموض أمر أفاض فيه النقاد قديماً وحديثاً ولسنا في حاجة إلى مزيد تأكيده. غير أن الذي يعنينا من كل ذلك هو تحوّل الاستعارة عند أبي الطيب إلى وسيلة لتشكيل العالم،

وكأن المتنبي وقد عجز عن تغيير العالم في الواقع قد انبرى يبدع في شعره عالَمَه الخاص الذي أعاد فيه للغة بكارتها الأولى وهو يؤسس سلطته في الواقع من خلال الكلمات.خاتمــــة:لئن ردّد أبو الطيب في شعره الحماسي معظم معاني الحماسة التي تداولها الشعراء قبله، فإنه قد تجاوز مفهوم القبيلة الذي قامت عليه الحماسة الجاهلية ليلوّن حماسياته في أحيان كثيرة ببعد ديني ربط بين الحرب والجهاد، كما عمد إلى إخراج هذه المعاني إخراجاً جديداً من خلال اشتغاله على الإيقاع والصورة الشعرية خاصة. هذا الإخراج الجديد لمعاني الحماسة هو الذي وهب حماسياته الانتشار والخلود وجعل المتنبي من أبرز شعراء الحماسة في الأدب العربي

 .