الغيب ومعنى الحياة – بكالوريا آداب
البعد الغيبيّ في تكوين الإنسان:
النّظرة القرآنيّة للإنسان شاملة ومتوازنة. قال تعالى:” وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ” سورة الحجر 28 – 29.
فالإنسان مكون من جانب مرئي مادي يمثل الجسد الذي خلق من قبضة من طين. كما أن للجسد مطالب وشهوات يجب تلبيتها. أما الجانب الثاني المكون للإنسان فهو الجانب الغير مرئي ألا وهو الروح التي تمثل الإرادة والوعي والفاعلية والمعنويات والمشاعر والحب والخير وغيره.
إذ جمع الله في الإنسان قوى العالمَيْنِ (الغيب والشهادة). فالإنسان كيان جسميّ روحيّ في نفس الوقت ويتميّز في اتّحاد عنصريّ تكوينه وتحقيق التّوازن بينهما وليس في التّخلص من أحدهما أو الفصل بينهما.
لذلك يجب على الإنسان أن يحقق التّوازن بين عنصريّ تكوينه وبين عناصر شخصيّته أي بين الرّوح والجسد، العقل والعاطفة، الحقّ والواجب، الحريّة والمسؤوليّة، الدّنيا والآخرة. ولا يمكن تفسير حياة الإنسان بإرجاعها إلى عامل واحد اقتصادي أو جنسيّ أو اجتماعي فهو شبكة متداخلة من العلاقات والعوامل.
الغيب ومسيرة الإنسان في الأرض أي الاستخلاف:
قال تعالى:” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ” البقرة 30. إذ تتضمن الآية الإعلان الإلهي عن استخلاف الإنسان في الأرض والخلافة تعني نيابة الإنسان لله في إجراء أحكامه وتنفيذ إرادته وهي مسؤوليّة وتكليف. فالخلافة درجة وجوديّة عُلْيَا بين المخلوقات وهي تكريم وتشريف للإنسان.
وللقيام بهذه المهمّة أعطى الله سبحانه وتعالى للإنسان مؤهّلات مختلفة منقسمة بين ذاتية وهي التي تتمثل في العقل المدرك والإرادة الحرة والقدرة الفاعلة وثنائية الجسد وقدرات موضوعية والتي تتمثل في تسخير الكون وتعاقب الرسالات السماوية عن طريق الوحي.
أبعاد الاستخلاف
يعطي الغيب معنى لرسالة الإنسان الوجوديّة…
الغيب وغائيّة الحياة:
قال تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” سورة الأحزاب 72.
يُعتبر تكليف الإنسان بخلافة الله في الأرض استئمان وتحميل للمسؤوليّة فقد قَبِلَ الإنسان هذه الأمانة لوعيه بقدراته الذّاتيّة والموضوعيّة وبمسؤوليّته فيما يمثل رفض السماوات والأرض والجبال لها فيه اعتراف بعجزها وإقرار بأن الإنسان هو مركز الثقل في الكون. إذ قال تعالى: ” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ” سورة المؤمنون 115. إذ تؤكد هذه الآية غائية الوجود وتنفي العبثية.
كما أن حصر الحياة في الجانب المادي يؤدي إلى الإغراق في الاهتمامات الماديّة والشّعور بالإحباط وفقدان معنى استمرارية الحياة فضلا عن محدوديّة الفكر وتعطيل المعرفة.
ومثال ذلك الإيمان بالبعث الذي يبعث في الإنسان روح التفاؤل والاطمئنان ويُنَمّي فيه روح الخير والصّلاح ويصدّه عن الشّر والفساد ويرشده ويضبط اختياراته ويحسّن سلوكه. فقد قال تعالى: “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ “. فالإيمان بالغيب يجعل الإنسان متحرّكا منتجا إيجابيّا وفاعلا.
الغيب وفاعليّة الإنسان:
لا يعتبر الإيمان بالغيب سببا لجمود الإنسان ومعرقلا لتطوّره ولفعله والدّليل على ذلك أن القرآن تضمن الدعوة إلى العلم من خلال تعلم العلوم الغيبية والشرعية والعلوم الكونية التي تمكّن الإنسان من فهم الأشياء والأحياء والسّنن الإلهية في الكون. إضافة إلى العمل من أجل بناء حضارة إنسانية وتحقيق التمدن والتقدم. قال تعالى:” يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه”.
ويعني لفظ “ملاقيه” أي محاسب عليه، فيما يعني لفظ “كادح” الجهد في العمل. فالاستخفاف سعي وجدّ، واجتهاد نحو الأفضل ويتحقّق ذلك بجانبين أساسيين هما العبوديّة لله بالامتثال لأوامره لنشر الحق والعدل والرّحمة وتحقيق السّيادة في الكون الذي يكون بالعلم والعمل والاكتشاف والاختراع والإعمار والإصلاح والإبداع والتّحضر والتّمدّن.
فالفاعليّة في الكون ميزة تميّز الإنسان في القرآن حيث اعتبر القرآن الإنسان العنصر الفاعل في كل تغيير وحمله مسؤوليّة صنع التّاريخ والإبداع في علاقته بالطّبيعة والمجتمع حتّى يحقّق الاستخلاف.
إضافة إلى أن غاية المؤمن الوجوديّة هي الحركة والنّشاط والعمل والإنتاج والسّعي في الأرض وتطوير حياته وبناء حضارته وإرضاء خالقه.
إذ قال تعالى:” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” النحل 97. فالغيب يضمّ الجانب الروحيّ إلى الماديّ ويحقّق التّوازن بين العالمين فهو حافز للعمل. إذ قال تعالى:” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ” القصص 73.
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني