مظاهر الأصالة والحداثة في رواية “حدّث أبو هريرة قال …”: لمحمود المسعدي – بكالوريا آداب
مظاهر العراقة والأصالة في رواية “حدّث أبو هريرة قال …”:
لم يتخلّى محمود المسعدي عن الأصالة الأدبية والعراقة التي طوّعها على روايته بل جعل منها منطلقا ومرجعا أساسيٍّ فيها انبنت عليه الرواية ويعود ذلك إلى نشأة الكاتب في صغره حيث نشأ على حفظ القرآن والتردد على الكتّاب ومن ثمّ الدّراسة بالصادقية التي ساهمت في تعلّقه بالأدب العربي القديم لتنعكس على كتاباته موسوعة سكوول وإنما ذلك دلالة على تأثّره بهذا الجنس خاصة ما دأب عليه أعلام الزيتونة الأبرار في كتاباتهم وأدبهم الفريد المتعلق بأسلوب المقامة التي تبتدأ بـحدث فلان قال … في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.
من ذلك عودته إلى أصناف وأجناس الكتابة القديمة ونعني بها جنس الحديث أساسا الذي قام على سند ومتن وهو أسلوب كتابي وأدبي شاع بين العرب حتى أصبح من خصوصيتهم لا تنفكّ عنهم وما سار عليه الكاتب هو ما يُحاكي في شكله أحاديث الرسول الأعظم – صلى الله عليه وسلم – موسوعة سكوول وبناء النادرة والمقامة والخبر عند كثير من الأدباء الكبار من العالم العربي الإسلامي أمثال الجاحظ ومقامات الهمذاني وبن حزم وأبو حيّان التوحيدي وغيرهم كثير وهو أعرق أساليب السرد ونقل الخبر، فعراقة الصياغة الفنية تظهر بوضوح في اختياره للحديث محوّلا له من وظيفة دينية إلى وظيفية أدبية غير التي اعتادها الناس والقرّاء من ناحية المضمون التي تحمله متون الحديث في الرواية مضفيا عليه أزمنة وأمكنة وَحَشّاهَا بتضمينات وأحداث ليُضفيَ عليها صبغة الرواية والقصّة لتناول القضايا الوجوديّة.
ومن الأصالة أيضا ما يظهر على الشخصيات إذ أنّها من خلال أسمائها التي أكسبها لها الكاتب لتوحي إلى عراقة وأصالة في الشخوص مستوحاة من الأدبي والحضارة العربية الإسلامية وهي أسماء ضاربة في القدم أمثال “أبو هريرة – أبو المدائن – لبيد – هشام – معن بن سلمان – …” وما تتسم به من أفعال وأحوال يدلّ على انتمائها لتلك الحضارة القديمة من كونها تؤدي الفرائض وتتزوج على السنة … موسوعة سكوول فهي تحيل على ما ائتلف عليه العرب وتعارفوا عليه في ذلك الزمن وحتى من صفاتها أيضا فإن ملامح الشخوص التي اختارها المسعدي لتأثيث روايته شرقية عربية في المظهر وسلوكا وطباعا مثل أبو هريرة الثابت والمطمأن المتزوج على السنة محترما ومنقادا للقيم والأخلاق العربية التي تعارف الناس عليها، وأبو المدائن تاجر عربي منسجم مع البيئة، حتى من عصا البطل شبيهة بعصا الأنبياء والرسل من العرب وأهل الجزيرة الغربية الذين يرعون الغنم والإبل يقول في “حديث الطين”: “خرجت من المدينة وقد أخذت عصاي أتوكأ عليها فاحمّلها ثقلي“.
تبدو الأصالة في الأمكنة التي تمثل عنصرا هاما في الرواية لا ينفكّ عنها من خلال أصالة اسمائها المركزية وهي “مكة – المدينة” وما حولها من صحراء والشام واليمن من جهة أخرى وحضر موت، موسوعة سكوول والقوافل والنوق والأفراس … وهي ميزة الجزيرة العربية والبئر المتعددة بها “وذهبت بها حتى نزلنا بئرا ميّهة عادية” علاوة على الواحات وثمارها “التين والعنب والأشجار والماء والرمان والعبهر والنّسرين“.
أمّا الزّمان فيبدو أصيلا وعريقا نحو وقوع الأحداث عبر أزمنة متعددة سافرت بنا عبر تاريخ العرب زمن الجاهلية ويظهر ذلك عبر مظاهر السبي والنهب والصعلكة والغزوات والتناحر وإلى زمن الإسلام الأول وزمن الدولة العباسية من خلال الخمارات وأحوالها في “حديث التعارف” يقل: “وهو يحدثهم ويضحك ضحكا كثيرا فرأيته سكران وكان كذلك …” موسوعة سكوول ومن مظاهر التشبث بالأصالة أيضا أن توقيت الأحداث الجزئية والمفصّلة رهينة أوقات الصلاة التي وقّت بها المسعدي الأحداث من الفجر والعصر والظهر والمغرب والعشاء كما أشرنا إلى ذلك في خصائص الأزمنة وفي رمزيتها أيضا وقد حملت الأزمنة صبغة دينية إسلامية لأن أزمنة الصلاة في عالم مكة قد حضرت في عالم البطل من انطلاق المغامرة الوجودية وانتهائها.
ويتجلّى مظهر الأصالة أيضا في اللغة التي وظّفها الكاتب في اعتماده لمعجم أصيل ولغة ضاربة في القدم التي استوحى ألفاظها أساسا من مصادر أساسية للغة وهي القرآن الكريم حيث عمد إلى دقّة الإيجاز في وضوح وهو ما يراه فريدا في كتاباته من ذلك قوله في حديث الكلب: “وسالت النفر ممن هم وكانوا ستة وسابعهم كلب كأنه لسانه قطع من نار” لما فيها من استلهام من قوله تعالة في سورة الكهف “سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ“. موسوعة سكوول خاصّة وأنّ المسعدي افتتح روايته بحديث الفاتحة وهو استلهام من كون أن القرآن الكريم يفتتح بأمّ الكتاب وهي سورة الفاتحة وقوله أيضا “هاته الأرض نحن خلقناها وهاته السماء نحن نصبنا عمادها فأقمناها فعل ملكتم من خيراتها شيئا“. ولما فيه من حديث القيامة والجنات والصلاة والتسبيح والأدعية كلها مستوحاة من السّجلِّ القرآنيّ مثل قوله أيضا “نخرج الشر من الخير والخير من الشر” قياسا على قوله تعالى “يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي“.
وقد استلهم أيضا لغته من كلام العرب وأفذاذهم في نشر ما كان غريبا من الكلام والحُوشِي منه وذلك لتأثره بكبار أدباء العرب أمثال التوحيدي والأصبهاني والجاحظ ويقول الأستاذ الأزهر بنرحومة في كتابه “المختصر في العربية – قسم الأدب الحديث” قوله موسوعة سكوول “وفي استدعاء خمريات أبي نواس في تجربة الحسّ وزهديّات أبي العتاهية في تجربة الدّين وشكوك أبي العلاء في حديث العمى ومقامات الهمذاني في قوله (فإذا والله ريحانتنا تغني) في حديث المزح والجد قياسا على (فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندري) أو قول أحد عشّاق ريحانة … (قفا نشك من ريحانة العين والحشى) قياسا على مقدمة معلقة امرؤ القيس (قفا نبك)“. وعلى مستوى البلاغة فإنها قامت على التشبيه والاستعارة من اللفظ القرآني “فهم كأعجاز نخل خاوية” استلهاما من سورة الحاقة في بدايتها او من خلال تمثّل وتصوير البيئة العربية وصفا دقيقا لها.
وذكرت “مجلة الأثر” في مقال لد. عافية بن وداد عن توظيف التراث في رواية المسعدي “حدث أبو هريرة قال … ” من ذلك قولهم:
تحتفي رواية المسعدي باللغة الصوفية “التي تومئ ولا تقرر، وتوحي ولا تحدد، فاللغة الصوفية لغة نورانية لما فيها من الكشف والإيحاء وظلال المعاني” إنها لغة الروح التي تسمو بما هو أرضي يجعله سماوي ونكتفي بمثال واحد موسوعة سكوول : “فتبين لي فتاة وفتى، في زي آدم وحواء متجهان إلى مطلع الشمس وكانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار …” لأن اللغة الصوفية مشحونة بدلالات وألفاظ لا متناهية تحمل أبعادا رمزية تضفي إلى أسرار وألغاز ورموز تخدم طبيعة الرواية الذهنية لذل ك يقول محمود المسعدي “اللغة التي أكتب بها كلها رمز لطيف”.
كما عمد الكاتب إلى ذكر الأساطير والقصص القديمة أمثال أسطورة “أساف بن عمرو ونائلة بنت سهيل” رمز الحبّ الأبدي والمحرّم الذان ارتكبا الخطيئة بالحرم في الكعبة فمسخا حجرين عبدهما أهل قريش فأصبحا رمز الحب العاصي، موسوعة سكوول ولما فيها من أنّ العقلية العربية قائمة على مرجعيات متعددة منها الأسطورة التي هي جزء لا يتجزأ عن القيمة الفكرية والثقافية المعرفية التي يبني بها الانسان معارفه وقصة هامان وفرعون في تحربة الجماعة لما فيه من رمزية العصيان الإنساني “تصيب أبا هريرة عند هاجرة كل يوم نوبة شديدة يهذي لها فيقول: فرعون أم الله؟” ويقول “ويطل من وراء فرعون شخص بروميتي“.
لقد اهتم المسعدي بالجانب اللغوي من خلال المعجم القرأني والمعجم الصّوفي لما فيهما من إيحاءات تخدم البعد الرمزي وتكثيف الدّلالات وعلى القارئ أن يفجّر طاقاته الذّهنيّة في استنباط المعنى واستوحائه.
وتتجلى مظاهر الأصالة والتعلق بالرافد القديم خاصة في النهاية في نهاية صوفية خالصة تحيلنا إلى شيخ الإسلام الإمام الغزالي والحلاج أصحاب التصوف.
مظاهر الحداثة والطرافة في رواية “حدّث أبو هريرة قال …”:
لم يبقى محمود المسعدي متشبِّثًا بأصالة الأدب والروافد القديمة فحسب بل اتّجه أيضا إلى الروافد الغربية ليضفى جماليّة ورونقا على روايته وكلّه راجع لنشأة المسعدي وتأثّره بما عاشه في فرنسا في جامعة الصّربون بباريس ولما اطّلع عليه من مذاهب فكرية وفلسفية ووجودية متأثرا موسوعة سكوول بـ: بودلير – جون بول سارتر – بول فاليري … لذلك نجد انعاكس للطابع والرافد الغربي على كتابات المسعدي وتتجلّى مظاهر التجديد والحداثة في رواية “حدّث أبو هريرة قال …” في ما يلي:
شكلا:
عموما فقد عمد المسعدي إلى جعل الأحاديث تأخذ بعدا واحد يتمثل في كونها تمثلّ ي جمعها قصّة ورواية أبي هريرة وسردا لتجاربه الوجودية في اجتماعها لا كما عهد العرب استقلالية الحديث عن الآخر.
التصدير ظاهرة غربية وتقنية حديثة وتحيلنا بعض نصوصها على مرجعيات غربية (التصدير في حديث البعث الأول) أدب محمود المسعدي لا يخلو من التّصدير فيها مثل مسرحية السّدّ ومولد النّسيان، حيث نجد لها هذه الظاهرة ظهورا قويًّا ومكثفا في رواية “حديث أبو هريرة قال …” موسوعة سكوول فجعله يتخلل طوايا الكتاب في مفتتح أطوار التجارب المتعددة للبطل وعدد 15 تصديرا إذ أنّ التصدير لم يكن مع كل الأحاديث فكان مع 12 حديثا فقط.وظاهرة التصدير لا نجدها في الكتابات القديمة عند الجاحظ أو لدى المعري، وإنما البيّن أنّ محمود المسعدي قد استوحاها من الأدب الغربي أمثال الكاتب الفرنسي “جورج بيرك” في كتابه “les choses – ladispariton ” حيث أصبح التّصدير في رواية “حدّث أبو هريرة قال…” موسوعة سكوول عنصرا أساسيا فعّالا أسبغ على الرواية جماليّة ودفع الشوق للقارئ على قراءة متن الحديث. وهذه التصديرات التي صدّر بها الكاتب الأحايث غالبا بقدر ما أعطت جماليّة على الرواية بقدر ما عبّرت على حوار ثقافي بين الحضارى الغربية والشرقية في الأدب في تقابل أقوال كبار المشارقة أمثال الغزالي في قوله “فقد عرفت أن سعادة النفس وكمالها تنتقش بحقائق الأمور الإلاهية وتتحد بها حتى تكون كأنها هي …”والتوحيدي في قوله “اعلم أن اليقظة التي هي لنا بالحس هي النوم، والحلم الذي لنا بالفعل هي اليقظة“. وغربيون أمثال إبسان “سنعلم يوم نبعث من بين الأموات” وبوبير في قوله “الفولاذ يأبى السكون والسلام، والنار تأباه وبروميتي يأباه لأنه ما زال لعقل الإنسان درجات عدة لا بدّ له من ارتقائها قبل أن يبلغ الذروة“.
مضمونا:
حظور الفلسفة النيتشوية والإيمان بقدرة الإنسان اللامحدودة في تجربة الجماعة (يقول أبو هريرة “هذه الأرض نحن رفعناها ونصبنا عمادها فأقمناها” فالإنسان إلاه الكون.
ومن ذلك أيضا أن المضمون الذي طرحه المسعدي هام في الغاية في حضور المضامين الغربية في الروايات والادبيّات العربية في طرح المضمون الوجودي بما يستدعي التحرر وترك الاختيار في تحديد المصير ونحت الذّات لا المجتمع والقيم والقيود العرفية والاجتماعية فلسفة سارتر وعلاقة البطل بالجماعة تذكرنا بالفكر الوجودي عند سارتر (الآخر هو الجحيم). موسوعة سكوول
أفرغ المسعدي شكل الحديث من مضمونه الوعظي الأخلاقي الإخباري ليشحنه بمفاهيم فلسفية حديثة فمن مظاهر حداثة المضمون التحدث عن الاباحية والتحرر من القيود خاصة موسوعة سكوول في تجربة الحس والحبّ وبعض تجربة الدين وتقوم هذه الإباحية عن ترك كل القيم والأخلاق التي تقيّد الإنسان من خلال فلسفة فرويد في سلطة الحرمان على سلوك الإنسان وكبت الجسد هو الذات هذا من حيث الحداثة في المضمون.
كما نلاحظ حظور النفس المأساوي في مسيرة البطل فهذه المأساة في أطراف الصراع تشبه مأساة الأبطال اليونانيين القدامى.
كسر خطّيّة الزمن:
بقد كان السرد في الرواية قائما على آليات متعددة منها الاستباقي والاسترجاعي والاستتباعي في آن عبر تلك الومضات التي تتباين بين الحين والآخر بين الماضي والحاضر والمستقبل لتطرّز أحداث الرواية، موسوعة سكوول وهي ما لا تنكره تقنيات الرواية الحديثة مثل رجوعه في “حديث الحاجة” إلى طفولته مع أترابه ولعبه معهم في الحي ثم يأخذنا إلى المستقبل.
المراجع الأساسية:
“حدث أبو هريرة قال …” لمحمود المسعدي – تقديم توفيق بكار.
المختصر في العربية – قسم الأدب الحديث للأستاذ الأزهر بنرحومة.
دراسات وتطبيقات في أدب البكالوريا: حدث أبو هريرة قال: الفن والدلالة للأستاذ محمد الهاشمي الطرابلسي.
الرواية العربية من خلال الشحاذ لنجيب محفوظ وحدث أبو هريرة قال لمحمود المسعدي – كنوز للنشر والتوزيع.
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني