العربية
بناء النص المسرحي – السرد والحوار والسرد والمحكي – “مغامرة رأس المملوك جابر” – بكالوريا آداب
مسرح التّضمين:
سعى سعد الله ونوس إلى المزج بين مساحتين قصد التقريب بينها إقامة حوار واع وهادف، كاسرا لتلك الحواجز الموجودة في المسرح القديم الذي يقوم بوضع مسافة بين المتفرج والمسرح، حيث قصد الكاتب بوصل المتفرج بالمسرحية مضمونا وشكلا من خلال اقتحام المسرحية حياة المتفرج الواقعية واليومية التي يعيشها بعين ناقدة ومنيرة تعالج إشكالات ذلك الواقع المؤسس إلى الكينونة الجماعية والمصير المشترك كما ذكر ذلك الأستاذ عماد الحاج ساسي.
هذا التضمين الذي قصد من خلاله الكاتب مخاطبة البشرية، الذي تخلص فيه – أي الكاتب –موسوعة سكوول من الخطاب التقليدي القائم على الوعظ والإرشاد وبرودة في الخطاب إلى خطاب مباشر محفّز ومثير أيقظ الفكر الراكد ليتّخذ موقفا من الواقع والأحداث المحيطة به لا أن يكون جامدا وأن لا يُملَى عليه الموقف على حدّ عبارة الأستاذ الأزهر بنرحومة.
يظهر التضمين عبر الأدوات والوسائل الفنّيّة التي ركّبها الكاتب ليصل بين زمانين ويركب بينهما بين الحاضر والماضي، ليؤكّد أن الحاضر هو نفسه الماضي مرآة لمجتمع لم يتقدم وعيا وفكرا وذلك عبر التضمين الذي نجده في تضمين قصة داخل قصة أي تحتوي على الأخرى، عبر الحكواتي– العم مونس – الرابط بين الأزمنة، موسوعة سكوول فللتضمين أوجها أوّلها تضمين قصة داخل قصة من خلال قصة الزبائن في المقهى كقصة إطار (في القرن 20م) وقصة مضمنة وهي قصة المملوك جابر (القرن 07 للهجرة زمن الخلافة العباسية)
وثانيها تضمين زمن داخل زمن (الماضي في الحاضر) بين القرن الـ 07 للهجرة زمن الخلافة العباسية والقرن الـ 20 زمن الكتابة وهو زمن السقوط جراء نكبة 1967 وسقوط بغداد من جديد سنة 2003، فالتاريخ نفسه كما ذكر الأستاذ الأزهر بنرحومة.
وزمن أحداث المسرحية عبر ما نجده من وسائل فنية ومؤشرات عن ذلك (المذياع: السابعة مساء…) من ذلك قول الزبائن: “كأن الزمان لا راح ولا جاء” ويقول أخر معلقا على جابر: “إبن زمانه” ، أي هناك صلة ورابطة بين الطرفين، ونجد أيضا علاقة تماهٍ بين المؤلف والراوي في توجيه الخطاب إلى البشرية كَكُلّ، موسوعة سكوول كما عبر عن ذلك الأستاذ الأزهر بنرحومة. وكذلك نجد تضمين متماهيا بين شخصيات المقهى وشخصيات القرن السابع للهجرة وشخصيات الجمهور المتفرج، كلّها تشترك في سمات محددة ومتبادلة وهي السلبية والخمول والجمود.
التناوب بين السرد والحوار:
يظهر التناوب بين خاصيتي السّرد والحوار في مسرحية “رأس المملوك جابر” عبر تداخل السرد والحوار في الخطاب من خلال السرد بما هو خطاب الحكواتي والذي يختلف طوله بين الطول والقصر وغالبا ما يكون مختزلا على لسانه ممهدا للحوار الذي نجده من خلال شخصيات الركح – الممثلون –ويتخلل هذا الحوار التعليقات الصادرة من الزبائن، وهذا التناوب بينهما نجده منتشرا على طول المسرحية، هذا التناوب الذي جمع بين فضاءات متعددة بين فضاء الشخصيات الممثلة للحكاية المضمنة (الوزير ومن معه) موسوعة سكوول وفضاء المقهى من حكواتي وزبائن المقهى مع فضاء ثالث هو فضاء المتفرج الحقيقي، وهو خروج عن النمط المسرحي المعتاد التقليدي ينبني على الحوار بين شخصيات المسرحية – الممثلون – وبين المتفرّج وخلق علاقة تفاعل بينهما.
وهذا التناوب أو التداخل بين مساحات خشبة المسرح إنما هي وسيلة تمنع المتفرج من التأثر والانفعال مع ما يعرض أمامه حتى يكون المتفرج مستقلا بذاته عن المسرحية بينه وبينها مسافة وعي ونقد حتى لا تجعله ينصهر في المسرحية.
التناوب بين المرئيّ والمحكي:
يظهر التناوب بين السّرد والحوار في مسرحية “رأس المملوك جابر” في وجود قصتين مضمنتين، هي قصة الحكواتي والزبائن، الذي بدوره يسرد قصة المملوك جابر. موسوعة سكوول بالتالي نجد المحكي المتمثّل في ركح الحكواتي “عم مؤنس” الركن الثابت أمام الزبائن الذي يسرد القصة ويحكيها، والركن المرئي الذي جسد المحكيّ عبر ركح الممثلين الذين يجسدون الحكاية التي يسردها الحكواتي وركح الزبائن المتأثرون بالحكاية.
كل ذلك كسر للإيهام والتأثر والإنصهار في الحكاية من قبل المتفرّج، ليكون الخطاب متداخلا بين المساحات للتجاوز مساحة الركح إلى مساحة المتفرّج حتى يتفاعل إيجابا مع المسرحية فكرا عبر توجيه الخطاب المباشر لهم كما هو موجه إلى زبائن المقهى ليتعلموا منه ولتبصير أعين المتفرج ونزع الغشاء عن الواقع حتى يدرك المتفرج خطورة المرحلة التي يعيشها والتي وجب عليه أن يكون متفاعلا معها تفاعلا إيجابيا، موسوعة سكوول لا سلبيا مثلما فعل الحرفاء ورعيّة الدولة العباسيّة.
بل أراد ونوس أن يكون المتفرج جزءًا من المسرحية عبر الارتجال والتفاعل لكشف الاشكاليات الواقعية والاجتماعية التي يواجها.
الإشارات الركحية:
تعتبر الإشارات الركحية عنصرا هاما من عناصر المسرحية من حيث البناء المسرحي إذ لا تقل قيمة عن غيرها من الأدوات المسرحية. إذ أنها تكون ممهدة للسياقات التاريخية ومؤطرة للأمكنة والشخوص، حتى يتهيّأ المتفرج والسامع لاستعاب الحكاية وفهمها.
أنواع الإشارات الركحية:
الإشارات السردية: تسبق الإشارات السردية الحوار أو تقطعه ونادرا ما تكون بعده تعليقا عليه، وهي إشارات مؤطرة للركح من حيث تحديد مكونات الركح وتحديد الحركات من دخول وخروج وانتقال على خشبة الركح (الخادم يحضر الشاي للعم مؤنس – نص لكل عملة وجهان)
الإشارات الوصفية:وهي إشارات تنعى بتحديد ملامح الشخصيات الخارجية من هيئة يقول: “شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره معتدل القامة شديد الحيوية” ، وملامح داخليّة تتمثل في استظهار الردود النفسية (الغضب / الفرح / الاندهاش / الخوف / … ) أو وصف المكان من حيث مكونات الركح والأثاث والديكور.
الإشارات الإيقاعية التنظيمية: وهي ما تنظم الركح عبر انتظام الشخوص على خشبة المسرح والموسيقى أو صوت الراديو.
وظائف الإشارات الركحية:
تقديم الشخصيات من خلال الملامح الخارجية من هيئة يقول: “شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره معتدل القامة شديد الحيوية” ، وملامح داخليّة تتمثل في استظهار الردود النفسية (الغضب / الفرح / الاندهاش / الخوف / … ) حيث قال الراوي (نافذ الصبر – نص: التدبير جاهز يا مولاي).
تأطير الركح مكانا وزمانا من خلال تحديد السياقات التاريخية والمكانية في آن؛ سياق تاريخي قديم: (قال الراوي: مان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والاوان، خليفة في بغداد يدعى شعبان المنتصر بالله …) وسياق تاريخي حديث وهو عالم المقهى المعاصر (نحن في مقهى شعبي … ثمة العديد من الزبائن .. في أرجاء المقهى).
مساعدة القارئ أو المتفرج من الفهم واستعات الحكاية.
تحديد الأثاث والدّيكوروالموسيقى والغناء والإضاءة (يخفت الضوء في القاعة بينما يشتد على الكرسي التي يجلس عليها الحكواتي) (حزمة من الضوء على رأس جابر).
تجسيد الحركات: تحديد الحركات على الركح أي حركات الممثلين والأحداث ( تتم رواية هذا المقطع على صوت خبب الخيول وصليل السيوف وصيحات الرعب بين حين وآخر يندفع بعض الذين مثّلوا عامة بغداد أو سواهم .. كلهم يدخلون وهم يصرخون ويمثلون إيمائيا تلقي الطعنات أو هتك العرض…).
العقد في المسرحيّة:
لئن كانت العقد في المسرح الأرسطي تتمثل في العقدوة الواحدة إلا أن سعد الله ونوس قد تجاوز العقدة الواحدة إلى العقدة المتعددة والتي تتمثل في كثرة العقد التي صاغها الكاتب عبر تصعيد الفعل الدرامي ثم الإسراع بالقدم نحو الذروة وانهيار الفعل، وكما انبنت على التشويق من خلال سرد الحكواتي وهي كالآتي:
عقدة الوزير: حينما أخرج الرسالة إلى ملك العجم وما يخفيه فيها وتربص الخليفة للقضاء عليه.
عقدة الخليفة: المتمثلة في الإطاحة بوزيره وكيف يقطع الإمدادات عليه.
عقدة جابر: الذي ينتظر المصير المجهول المتمثل في قطع رأسه في عرض إيمائي وعقدة الظفر بزمرّد.
النهاية:
وقد أكد ونوس على دور الجماعة في العمل السياسي إذ لا جدوى من العمل الفردي كمطلب للخلاص بعد ان كان جابر آملا مريدا للتحرر من العبودية بطريقة لا أخلاقية من خلال الخيانة مقابل السعادة كان الثمن غاليا بقطع رأسه حيث تجلت النهاية في كونها نهاية مفزعة وتراجيدية، كانت مفاجئة للجمهور وللزبائن، وحتى لا يتواصل إنصهار الجمهور في الحكاية وفي شخصية المملوك جابر “هذا المملوك شيطان … ابن زمانه” مما جعلهم لا يقبلون النهاية “إننا لا نقبل .. نهاية غير عادلة” جعل عرض مشهد القطع إيمائيا وجسد رأس جابر المقطوع تتقاذفه الشخوص الأخرى في ما بينها، مشاهد لا توجد في المسرح الأرسطي احترما للمتفرج، من خلالها يستفزّ ونوس الجمهور ليدفعهم إلى إحياء الوعي والفكر لديهم، لا أن يصير مصير المجتمع نحو ما ذهب إليه جابر.
التراث: ودوره في بناء النّصّ المسرحي:
يعتبر التراث رافد من الروافد الكتابية والدرامية الهامة التي يستلهمون منها ويقتنصون مواضيع كتاباتهم، مثلما فعل سعد الله ونوس في مسرحية “رأس المملوك جابر” لينهل من التراث العربي مكونات أساسية للمسرحية تتجسد فيها، وللمحافظ على الهوية العربية للمسرح العربي وجعله مواكباللتطورات والتغيرات التي تطرأ على البيئة والمحيط الدّائر بها. ومن ذلك نجد أن الكاتب عاد إلى الحياة اليومية للجتمع العربي من خلال أطر مكانية وملامح الشخصية العربية وأبرز استلهامات الكاتب:
الحكواتي / كرسيّ الحكواتي: يعتبر الحكواتي مظهرا من مظاهر التراث الشعبي الذي دأب عليه المجتمع الشرقي؛ ويعتبر قالب فني متواتر في المجتمعات العربية؛وهي شخصية تقص وتحكي القصص التاريخية والشعبية ويقوم اشخاص بتمثيل ما يحكيه ، ولعل ما يجذب إليها المتفرج ما تتضمنه هذه الظاهرة من استحضار البطولات التاريخية الغائبة في الواقع المرير والراهن الذي فقد تلك المواصفات فهو يلهب المشاعر والأحاسيس عند المتفرج ويوقظها وهذا ما قصده سعد الله ونوس.
الحكاية: استلم الكاتب من الحكايات التاريخية: حيث عاد إلى حكاية رأس المملوك جابر زمن الدولة العباسية في القرن 07 للهجرة لتكونخلفية لبناء الصراع الدرامي، وانتقى منه ما رآه يحاكي الواقع ويلامسه من تشابه ليعيد قرأة الواقع المأساوي للأمة في القرن الـ 20م ومما وصلت إليه من جمود مجتمعاتها. يقول سعد الله ونوس: “لم يكن التراث بالنسبة إلي إلا وسيلة أو شكلا ساعدني على الاتصال بصورة أعمق بالراهن (…) أناأستعير الحكاية لكي أتحدّث عن الآن (…) لا تعنيني إلا بمقدار ما تستطيع أن تزيد فعاليّة عملي الفني الآن، بالنسبة للحياة الراهنة”.
الأمثال الشعبية: نقل سعد الله ونوس أمثالا شعبية يتداولها رجال الشرق من أمثال: (أما نحن فلا ناقة لنا ولا جمل) وقوله (ابعد عن الشر وغنّ له) وكذلك (من يتزوج أمنا نناديه عمّنا) وهي أمثال تورث إلا الذل والتواكل والهرب من استبدال الحال بأفضل منه وإيجاد البديل.
الأطر المكانية والزمانية: وظف الكاتب المقهى كمان لسرد الحكاية، إذ لها صدى كبير في وقع الكثير من أفراد المجتمع الشرقي في مصر وسوريا وفلسطين، ولها طابع تقليدي، علاوة على الأمكنة التاريخية التي ترجع إلى زمن الدولة العباسية بشوارع وقصور بغداد.
الشخصيات:أسماء الشخصيات (المعتصم بالله / عم مؤنس / العلقمي) أسماء تاريخية ومتداولة في المجتمع العربي وأهالي بغداد علاوة على سمات الحكواتي كشخصية شرقية عربية تمثل تراثا عريقا. ولربما استلهم الكاتب رمزية الشخصيات وطبيعتها من مجتمع القرن السابع تحديدا أهالي بغداد لما فيه من الوهن والاستخفاف وهي صورة أو مرآة للمجتمع المعاصر “يقول الوزير: العامة ! ومن يبالي بالعامة؟ لا .. هؤلاء لا يثيرون أيّةَ مخاوف. يكفي أن تلوِّح لهم بالعصا حتى يمحوا وتبتلعهم ظلمات بيتوهم”.
إن العودة إلى التراث عند سعد الله ونوس ليس إستحضارا للهوية العربية وتأصيل المسرح العربي فقط بقدر ما كان فضاءً لطرح القضايا والإشكاليّات التي يعاني منها المتفرّج العربي في القرن الـ20م ولربما كانت هذه القضايا ليست حديثة بقدر ما كانت قديمة مما جعل الكاتب يستلهم صورة للعربي الحديث من العربي القديم الشبيه له في هوانه وضعفه وجموده.
عناصر الفرجة:
الأثاث والدّيكور:
المؤثثات: هو كلّ ما يظهر على الركح من مكونات من الأثاث الذي يركب دون أن يسدل الستار تحقيقا لوظيفة التغريب “أثناء كلام الحكواتي يجري تركيب غرفة على المسرح لها باب ونافذة ضيقة جدا، النافذة مشبكة بالحديد والباب مغلق يقف عليه حارس” ومن الشواهد أيضا ديوان الوزير والخليفة وملك العجم “يظهر ديوان الملك منكتم بن داود … وهو فاخر الريش” علاوة على أثاث المقهى “ثمة عدد من الزبائن يتفرقون على المقاعد المبعثرة … يشربون الشاي … وبينهم يروح الخادم ويجيء حاملا صواني الشاي والقهوة”.
الإضاءة: وظفت الأضواء لاضفاء جمالية على الركح ولمزيد الإثارة والتأثير مثلما وقع في مشهد حلاقة رأس جابر “تسقط حزمة ضوؤ على رأس جابر فينبثق منه لمعان”. وعندما قصد الحكواتي القص “يخفت الضوء في القاعة بينما يشتد على الكرسي الذي يجلس عليه الحكواتي”.
الموسيقى والغناء: استلهم سعد الله ونوس من المسرح البريشتي جمالية الموسيقى خلال العرض وعند قطعه وكانت أغاني كلاسيكية في المقهى ومن ذلك غناء الصبية عند مشهد الحلاقة بقولها:
“يا معلم الحلاقين ..
بفن ومهارة
خل الرأس يصير مثل خدود العذارى”
وكما يمكن للموسيقى والغناء أن تتخلل الحوارات مثل غناء جابر على خبب جوده أو غناء الممثلين والزبائن في آخر المسرحية للجمهور.
الإيماء: هي من وسائل المسرح البريشتي وقد أحكم ونوس توظيفها مثل مشهد سقوط بغداد، أو مشهد قطع رأس “المملوك جابر”.
المراجع:
المختصر في العربية – قسم الأدب الحديث – للأستاذ الأزهر بنرحومة
مغامرة رأس المملوك جابر (سعد الله ونوس) دراسة نقدية – الأستاذ عماد الحاج ساسي
جذاذات العربية (تلاخيص) إعداد محمد الهاشمي الطرابلسي.
المسرح العربي من خلال مغامرة رأس المملوك جابر و شهرزاد – دار كنوز للنشر والتوزيع
احصل على الدروس عن طريق البريد الالكتروني