إن الانتحار ليس مشكلة نفسية فحسب، بل ظاهرة نعيشها بشكل يومي في مجتمعاتنا اليوم ، وإن المنتحرين ليسوا مرضى نفسيين دائمًا، كما نتخيل، بل محتجين فقدوا أسباب البقاء.
الانتحار هو موقف احتجاجي ضدّ عبثية الحياة، إفصاح أخير عن صعوبة احتمال العيش في ظل ظروف قاهرة، هو حالة من النقمة الذاتية، يتوجه فيها الإنسان لتمزيق ذاته، انتقامًا من وجوده المهدور.
يمكنك أن تلاحظ ارتفاع نسبة المنتحرين، بعد انكسار ثورات الشعوب، الأمر ليس من قبيل الصدفة، ففي كل الحالات، الانتحار: هو إعلان صارخ عن فشل الدولة في تأمين وجود الكائن، وفي حالتنا بالتحديد هو أحد تجليات الوجود المكشوف في بلاد ضائعة بلا دولة تحرس الحلم ولا نظام يخلق العدالة.
الشعور بالضياع، الإحساس بالفشل، فقدانك الدافع، وسقوط المعنى من داخلك، انقطاع كل روابطك بالحياة وإحساسك بعبثية الوجود، مشاعر العجز التي تنتابك، سؤال المستقبل القلق وانسداد الواقع أمامك، انهيار أحلامك الكبرى ثم السقوط في فخ الإحباط الشامل، هذه هي المشاعر التي تسبق عملية الانتحار، وهي في غالبها حصيلة لأسباب سياسية أو غالبًا
لأسباب علاقة حميمية أوصلت حياة الكائن لحالة من التلف.
قبل ثلاث أشهرٍ تقريبا، كنت أعيش هذه الحالة بإحساس عميق وأفكر بها بشكل دائم، لم تكن المشكلة تتعلق بالأفكار الوجودية هذا النوع من الأفكار كان يلعب دور الاسناد فحسب لكن الأسباب الحقيقة كانت تتعلق بظروف نفسية. لم تتغير الظروف كثيرا، وكنت أتخذ من العزلة والكتب ملجأ، وبالصدفة قرأت « لسيوران » وفهمت لماذا أنا ساخط هكذا، » سيوران » هذا هو فيلسوف العدمية، المتشائم المرح، لقد أيقظ داخلي وعي الحياة عبر فكرة الانتحار، ومنذ أصبح الانتحار أمرا مفهومًا، لم تعد الحياة مرعبة .
إن أجمل شيء في « الانتحار » أنّه قرار، أي أنك قادر على فعله متى شئت، فهو خيار حر، وأسوأ شيء في الحياة أنها إلزامية، أي أنها مفروضة عليك ولم تخترها بنفسك. ليست الحياة بطبيعتها قاسية، هناك من عبث بها وجعلها كذلك.
ولا يوجد فكرة تخفف مأزق الوجود القاسي، مثل فكرة الانتحار، شريطة أن تبقى مجرد فكرة ممكنة، أما حين تتحول لقرار متحقق، فإنها تفقد وظيفتها، وتغدو هي الأخرى بعد تحققها بلا جدوى، مثلما هي الحياة بالنسبة للمنتحر بلا جدوى أيضا.
إن الذين يفكرون بالانتحار لا ينتحرون، من ينتحر هم أولئك الذين لا يفكرون بالانتحار، ينفذونه بسرعة خاطفة، أولئك الذين يحبون الحياة بجنون وحين يفقدون قدرتهم على مواصلتها يصابون بالخيبة ويغادرون مسرحها دفعة واحدة. أما من يكره الحياة أو يحبها قليلا فهذا شخص لا يمكنه أن ينتحر، إنه شخص تكفيه أبسط المبررات ليعيش، ولهذا فهو محروس من الخيبة ومحروس من الانتحار أيضًا.
إن بقاء الانتحار مجرد فكرة ذهنية حاضرة داخلك باستمرار، لهو أمر مهم، أمر يُحدث توازن بين فكرة الحياة القسرية، وبين إمكانية الخلاص منها، هذا التوازن، هو ما يعينك على البقاء، فما دمت تملك إمكانية الرحيل وعدم الرحيل، فإنك لن ترحل، إننا لا نرحل إلا حين يكون البقاء مفروضًا علينا ولا نملك أسبابه، ولهذا نحن نهرب نحو الانتحار، أما حين تكون واعيًا بإمكانيتك على الرحيل، فإن حريتك في المغادرة ستدفعك للقبض على حريتك في البقاء، وهنا تكمن الوظيفة الجميلة للوعي بالانتحار . يبدو لي هذا ملخصًا لما فهمته، عن منظر الانتحار الأول.
إذا كانت الحياة بلا مبرر، فإن الموت بلا مبرر أيضًا، والحل الوحيد لمن يرفض الحياة، هو أن يرفض الانتحار أيضًا، مع استمرار التفكير فيه، فالتفكير في الانتحار يساعدنا على الحياة، إذ أن وعيك بالفكرة يساعدك في فهم نقيضها، وفهمك للانتحار يساعدك في تجاوزه.
والآن، هل علينا أن نغادر الحياة ونتركها لهم..؟
هل نتركها لمن صادروا علينا أسباب الوجود الكريم..
هل نترُكها لمن أشبعونا طعنا وغدرا وهجرانًا ؟؟
لا، عليك أن تستجمع قهرك وغضبك وتستمر في منازلتهم حتى النهاية، عليك أن تفقع أعينهم بأصابعك وتخمش وجوههم بمخالب يديك. من الجيد أن تفرغ نقمتك في الاتجاه الصحيح، لا تنتقم من ذاتك، ولا تتسول وجودك منهم، بل انتزع حقك في العيش بقوة الحلم وعنف الغريزة/ غريزة البقاء.
المنتحرون هم أكثر الناس استحقاقًا للحياة..
بقلم: بشير مليكي- تلميذ بكالوريا آداب في معهد زانوش- قفصة