الليلة ولدت ابنتي الأولى بقلم: أحمد ساسي

حملتُها بين يديّ ..بجسمها الصغير ذاك.. كنتُ خائفًا في البداية أن تكون يديّ الخشنة.. قاسيةً جدّا على جسدها الهشّ تأمّلتُها لساعاتٍ… صوت بكائها.. الذي تخيّلته سيكون مزعجًا… بدى كأنّه موسيقى… كُلّها بدت رائعةً.. كأنّها معزوفةٌ لبيتهوفن…

مثلكِ تمامًا، هي ظريفةٌ بشكلٍ غريب جدّا.. لدرجة جعلتني أعتقد انّ الربّ خلق ملاكًا على شكلكِ أنت ِ.. تمنّيتُ لو كنتِ هنا بجانبي الآن..تمنّيتُ أن أراكِ تداعبين أنفها الصغير.. هو ظريفٌ كأنفك….

وحتّى فُمها الذي لا يكادُ يظهر يشبه فَمكِ. كلّما نظرتُ داخل عينيها اللتّان لم تفتحَهما كلّيا بعد .. أشعرُ أنّها تحملُ جزءًا ٌ من روحكِ..، أعرف أنّه من المستحيل أن تبتسم في يومها الأول من الحياة ..و لكنّني أكاد أقسمُ أنّها تبتسم … إبتسامةً مثل إبتسامتكِ …

سمّيتُها ميسان كما إتّفقنا أن يكون إسم إبنتنا تمامًا كي أناديها كلّ مرّة.. وأنا أذكر جيّدًا أنّنا وقفنا ذات يومٍ في ما مضى و تحدّثنا عن هذه الليلة التّي كان من المُفترض أن نكون فيها معًا.. ولكنّنا… وللأسف لم نفعل .. أنا سعيد جدّا هذه الليلة ..لأنّني أرى جزءا منّي يولد… ولكنّ فرحتي لن تكتمل ما دمتِ لستِ هنا…

أذكرُ أنّني كنتُ أخبركِ مرارًا.. أنّ سعادتي لن تكتمل إلاّ بكِ… وها هي لا تكتمل… لا أعرف لما تركتني هنا وحيدًا… مع زوجةٍ لا أعلم عنها شيئًا سوى أنّها تجيد الطبخ أكثر منكِ… وأنّها تنصاع لأوامري دائمًا… وذلك حقّا ما يزعجني ويجعلني أشعر بالملل نوعا ما…

ذلك حقّا ما يجعلني أفكّر فيكِ بين الحين والآخر.. ويقودني إلى ركنٍ منزوٍ في ذاكرتي المظلمة.. ركنٌ أشتاقُ فيه.. إلى عنادكِ… و أحنُّ فيه إلى شجاراتنا الصاخبة تلك التّي تجعلنا نبدو مثل الأطفال.. أشتاقُ فيه.. إلى عباراتنا وشتائمنا المتكرّرة… والعناق بعد كلّ شجارٍ.. تلك القبلة التّي تتقاسمُها شفاهُنا، و الحلوى التّي نتشاركهُا..

الغمّيضة آخر الليل… الموسيقى أوّل الصباح.. إبتسامتكِ المشرقة، و تلك الطريقة التي تُمسكين بها يدي خوفًا و كأنّني أبٌ.. يوفّر لكِ الأمان، حقّا كلّ شيء يدفعُني لأفكّر في جميع تفاصيلك

يُعجبني كيف كنتِ صديقتي .. وأختي.. وأمّي.. وحبيبتي… كيف كنتِ كلَّ شيء، أمّا… هي فتعتبرني زوجًا فقط.. لا غير مجرّد عقدٍ… ومراسمٌ زوجيّة تافهة.. بعض الزغاريد… صور تذكارية.. وبؤس مدى الحياة… هي ليست مثلكِ أبدًا ..هي .. لا تسأل عن ذلك السواد تحت عينيّ.. ولا تكتشف ذلك الحزن في ابتسامتي…

هي لا تشعر بذلك الصداع داخل رأسي.. خاصة وأنّها هي نفسها مصدر ذلك الصداع… هي فعلاً لا تهتمّ … أعرف أنّها إمرأة جيّدة.. و طيّبة .. ولكنّها تقليدية جدّا… لدرجة أنّها عاديّة للغاية.. وأنا لا أحبّذ العادي … أنا فقط أريد الجنون أقصدُ جنونكِ أنتِ، أريد يدكِ التّي لم تتركني قطّ وإبتسامتكِ التّي لا تفارق مخيّلتي ..

أريد تلك النظرة الغريبة التي تنظرين بها إلي .. و الغيرة المفرطة التّي تُزعجبني، أريدُ بؤسكِ، وسوادكِ، سُروركِ وبكائُكِ .. أنا حقًّا أريدُكِ رغم كلّ شيء

الجميع هنا يسألونني عنكِ، أمّي تزورني في غرفتي المظلمة هنا.. دائمًا تتأملّ وجهي حتّى تغلبها الدموع فتنهمرُ على وجهها المتعب و كأنّ همومي تُثقِلُها فتبكي بدلاً عنّي، حدّثتُها عنكِ الليلة، فعانقتني وهي تبكي ككلِّ مرّةٍ .وقالت ..  » أحمد أرجوك …إنتهى الأمر .. هي عند الربّ يرعاها …  »

لم أصدقّ ولن أصدّق، أذكرُ جيّدًا أنّني صرختُ عاليًا .. بكلماتٍ أنا نفسي لم أفهمها، غضبتُ كثيرًا وتعالى صياحي في المكان وفي لحظةٍ أحاطت بي مجموعة من الممرّضين قيّدوا يديّ ووضعونني فوق فراشي، جاء طبيبي مسرعا في يده حقنةٌ غرسها في جلدي حتّى خارت قواي، ونظر في وجهي و قال: » أ مازلت تختلقُ قصصا جديدة عن حبييتك الميّتة !!!، ماذا عن ميسان.. ؟؟ هل كبرت !!؟ أين زوجتك الخياليّة  » ثمّ إبتسم إبتسامةً ساخرة ، وأكمل  » أنتَ غبّي جدّا، مرّت خمسُ سنواتٍ الآن وأنت لا تزال تتحدّث عن ابنتك وعن حبيبتك لا تزال تختلقُ قصصا جديدة خمسُ سنوات فيٍ مستشفى المجانين لم تُكن كافية لتُقنعكِ أنّ تلك الفتاة قد ماتت في حادثٍ نجوتَ منه أنتَ بأعجوبةٍ  »

وحتّى أمّي .. حتّى أمّي تُصرّ أنّك رحلتِ وأنّني فقط أختلق قصصا عنكِ جرّاء إضطراباتٍ نفسيّة، وأنّ كلّ شيء أتذكّره عنكِ هو مجرّد خيال … مجرّد قصص لم تحدث أبدًا ظللتُ أصرخُ أخبرهم طوال الليلة أنّك حيّة و أنّك تتنفّسين في مكانٍ ما أنّكِ وعدتني بالبقاء، ظللتُ على هذا الحال حتّى هزمني مفعول الدواء ولم أعد أقوى حتّى على الكلام، ينسحبون هم ببطء… نظرات أمّي ترمُقني بحزنٍ .. تتردّد للحظةٍ ولكنّها تخرج معهم من الغرفة

يُغلقون الباب ويعمّ الظلام من جديد، ظلّ صوت الطبيب داخل رأسي طوال الليلة يخبرني انّك مجرّد خيال وظللتُ أصرخ بصوتي المنهك أنّك الشيء الوحيد الحقيقيّ في حياتي « كيف تكونين خيالاً.. وأنا لا ازال اشعر بيدكِ الناعمة تلامس وجهي منذ التقينا البارحة… أو قبل البارحة.. أو منذ خمس سنواتٍ !!! أنا حقّا لم أعد.. أعرف …. >>

أكملتُ كتابة الرواية.. كانت هذه الرسالة خاتِمتها .. رميتُ الأوراق فوق الطاولة وناديتُ – « ميسان تعالي إلى أبيكِ حدّثيني عن المدرسة، كيف كان يومكِ .. ؟ »

أحمد ساسي- كلّية الحقوق والعلوم السياسيّة